ومن حيثُ كان هذا المقطع غالباً على كثير من الكفار، جاء التوبيخُ في هذه الآية لاسم الجنسِ؛ إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنْزع [6]، ومن ذلك حديث الأعرابِ الذين كانوا يقصدون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نال منهم خيراً، قال: هذا دين حسنٌ، ومن نال منهم شرٌّ، قال: هذا دين سوءٍ). [7]
وقال ابن عطية (ت: 542) في قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء: 1: (وقوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) عامٌّ في جميع الناسِ، وإن كان المشارُ إليه في ذلك الوقت كفار قريشٍ، ويدلُّ على ذلك ما بعدها من الآياتِ، وقوله: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)؛ يريد: الكفار.
قال القاضي أبو محمد [8] رحمه الله: (ويتَّجِهُ من هذه الآيةِ على العُصاةِ من المؤمنين قِسْطُهُم.
وقوله تعالى: (ما يأتيهم) وما بعدها مختصٌّ بالكفارِ). [9]
وقال في قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يونس: 12).
وقوله: (مرَّ) يقتضي أن نزولها في الكفار، ثم هي بَعْدُ تتناول كل من دخل تحت معناها من كافرٍ أو عاصٍ). [10]
وقد ذكر الشنقيطي (ت: 1393) ـ في معرضِ ردِّه على التقليدِ ـ آياتٍ في النهي عن التقليدِ، فقال: (… وقال جل وعز: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) الزخرف: 23 ـ 24، فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء، فقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون.
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عزَّ وجل: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الأنفال: 22، وقال: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) البقرة: 166 ـ 167، وقال عز وجل ـ عائباً لأهل الكفر وذامّاً لهم ـ: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) [11]، وقال: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) الأحزاب: 67، ومثل هذا في القرآن كثير في ذمِّ تقليد الآباء والرؤساء.
وقد احتجَّ العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفرُ أولئك [12] من الاحتجاج بها؛ لأنَّ التشبيه لم يقع منهم من جهة كفرِ أحدهما وإيمانِ الآخرِ، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجةٍ للمقلِّد، كما لو قلَّد رجلٌ، فكفرَ، وقلَّدَ آخرٌ، فأذنبَ، وقلَّدَ آخرٌ في مسألةِ دنياه، فأخطأ وجهها، كان كلُّ واحدٍ ملوماً على التقليدِ بغيرِ حجةٍ؛ لأنَّ كل تقليدٍ يشبه بعضه بعضًا، وإن اختلفت الآثامُ). [13]
ومن هذه النقولِ يتحصَّلُ ما يأتي:
1 ـ أنَّ مثلَ هذه التفاسيرِ أو الاستشهادات إنما جاءتْ على سبيلِ القياسِ.
2 ـ أنَّ هذا الأسلوبَ معروفٌ في السنة وآثار السلف ومن جاء بعدهم من العلماءِ، ولذا حكموا بإبطالِ التقليدِ اعتمادًا على الآياتِ النازلةِ في الكفارِ.
3 ـ أنَّ القياسَ إنما هو بالاتصافِ بشيءٍ من أوصافِ الكفارِ التي قد تقع من عموم الناسِ. أما الأوصاف التي تختصُّ بوصف الكفرِ الأكبر؛ كنواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهذه لو عمل بشيء منها فإنه يخرج عن مسمى الإيمان إلى الكفر، ولا يدخل في ما سيق البحث من أجله.
¥