المفردة القرآنية .. المراحل التي تمرُّ بها حال تفسيرها (4)
رابعَا: المصطلح الشرعي:
يراد بالمصطلح الشرعي ما جاء بيان معناه في لغة الشارع سواءً أكان ذلك في القرآن أم كان في السنة النبوية.
وكلام الشارع مبني على بيان الشرعيات لا على بيان اللغات، لذا استخدم ما تعرفه العرب من كلامها وزاد عليه معاني أو خصَّص ألفاظًا على معنى معيَّن، وهذا يُعرف من جهة الشرع، وهو ما يسمى بالتعريف الشرعي، فنقول مثلاً:
تعريف الصلاة لغة، ونبين فيه أصل معنى اللفظ واستعمالات العرب لهذا اللفظ في لغتها.
تعريف الصلاة شرعًا، ونبين استعمال الشارع للصلاة، وهو أنه نقلها من المعنى اللغوي المعروف إلى معنى زائد أو مخصوص بأعمال وأفعال مخصوصة سمَّاه صلاةً.
والمعنى الشرعي لا ينفكُّ عن أصل اللفظ في لغة العرب، وهو موجودٌ فيه غير أنه يزيد عليه بتحديدات شرعية لم تعرفها العرب من قبل.
ولقد برز عند العلماء بسبب هذا قاعدة تقديم المعنى الشرعي على المعنى اللغوي عند وجود احتمال التعارض بين المعنيين في سياق واحد، وسبب ذلك أنَّ الشارع معنيٌّ ببيان الشرع لا بيان اللغات.
ومن أوضح أمثلة احتمال التعارض بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي ما ورد في قوله تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (التوبة: من الآية84)، إذ السياق يحتمل المعنيين، فقد يكون المراد: لا تدع لهم، وهو معنى الصلاة في أصل اللغة.
وقد يكون المراد لا تصلِّ عليهم صلاة الجنازة، وهو المعنى الشرعي المخصوص، وهو المقدَّم هنا.
لكن الصلاة على المؤمنين قد وردت في سياق آخر، ولا يُراد بها الصلاة الشرعية، بل الصلاة بمعناها اللغوي، وهو الدعاء، وذلك في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة: من الآية103).
فالصلاة المأمور بها هنا هي الدعاء، بدلالة قول عبد الله بن أبي أوفى كما في صحيح البخاري (ج: 4 ص: 1529): قال: ((… ثم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صلِّ عليهم. فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى)).
فدلَّ هذا الحديث أنَّ صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن جاء بصدقته ليست صلاة مخصوصة، بل هي مجرد الدعاء لهم، ولو كانت صلاة مخصوصة كصلاة الجنائز أو غيرها لبيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله.
وفِعْلُه هنا ـ وهو نوع من التفسير النبوي، وهو ما يسمَّى بتأوُّل القرآن ـ دلَّ على أنَّ المراد المعنى اللغوي.
وهذا الموضوع ـ وهو المصطلح الشرعي ـ من الموضوعات المهمة، وقد تطرَّق إليه علماء العقائد وعلماء أصول الفقه، لكن الملاحظ أنَّ كثيرًا منهم قد يحيد عن المعنى الشرعي في بعض الأبواب، ويدَّعي بقاءها على المعنى اللغوي؛ لشبهة وقعت له في ذلك الباب، ومن أوضح الأمثلة في ذلك قصر المرجئة مسمَّى الإيمان في الشرع على التصديق دون دخول الأعمال في مسمَّاه، وهذا مخالف للشرع الذي بين دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وكذا فهم السلف ذلك.
ولهذا لو قال قائلٌ: إنَّ المراد بالصلاة: الدعاء فقط، بناءً على المعنى اللغوي، كما جعل ذلك مسمى الإيمان على المعنى اللغوي عند الشارع؛ لأنَكَر عليه ذلك، واحتجَّ عليه بورود الشرع بمعنى الصلاة، فإذا كان ذلك كذلك عنده، فإنه يُحتجُّ عليه بورود مسمى الإيمان على العمل، والنصِّ على دخولها فيه.
وهذا الموضوع يطول الحديث عنه، وهو يؤخذ من كتب الاعتقاد، ولعل الإشارة هنا كافية في الدلالة على المقصود.
هذا، وقد كُتِبَ في المعنى الشرعي كتابات كثيرة، وأشير هنا إلى دراسة معاصرة جيدة في هذا الباب، وهي (التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن) تأليف الأستاذ عودة خليل أبو عودة.
ولعلك تلاحظ من خلال الحديث السابق أن مستوى تفسير اللفظ بالمصطلح الشرعي أخصُّ من المستويات السابقة، فكلُّ لفظة لها مصطلح شرعي متميز لها أصل واستعمال في لغة العرب، ولا يلزم من كل لفظٍ في لغة العرب أن يكون له مصطلح شرعي خاصٌّ.
¥