وإذا كانت هذه الآرامية لغة المسيح، وقد قال: (الوي الوي لم شبقتني)، وهي بعربيتنا اليوم (إلهي إلهي لم سبقتني)، وفي (إنجيل متى 27): ((إيلي إيلي لم شبقتني ((أي: إلهي إلهي لماذا تركتني)))) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس: 1968، وينظر تحليل عميق قوي لهذه العبارة في كتاب (العلم الأعجمي في القرآن)، للأستاذ رؤوف أبو سعدة (2: 283 ـ 285).
أقول: إذا كانت هذه لغته، وهي لغة عربية قديمة قبل لغة القرآن، أفلا يجوز أن تقول: إن اللغة التي تحدث بها عيسى عليه السلام منحدرة من تلك اللغة الاشتقاقية، وهي مرحلة من مراحل تلك اللغة التي وصلت إلى ما وصلت إليه من لغة القرآن.
يذكر الدكتور محمد بهجت قبيسي (ص: 344) أن كلمات اللغة الآرامية ومفرداتها بجذورها حافظت عليها العربية العدنانية نحو (2، 86 %) من كلماتها.
ولنرجع إلى قوله تعالى: (ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)، لقد قالها عيسى أمامهم، وسمعوا هذا الاسم، وعرفوا معناه؛ لأنه من لغتهم، والذي يدل على معرفتهم بمعناه دقَّة ترجمة المترجم من الآرامية إلى اليونانية، حيث ترجمها إلى (برقليطس= periqlytes) ، وبعضهم يحذف لاحقة التذكير اليونانية، فيقول: (برقليط) أو (فرقليط)، أو (الفارقليط) كلها بمعنى واحد، لكنك ـــ مع الأسف ـــ لا تجد هذه الكلمة في الطبعات العربية، وإنما تجد في بعضها (المُعَزِّي)، وفي بعضها (المعين)، وقد جاء في (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص: 2226): ((وعندما يأتي المعين الذي سأرسله لكم من عند الأب، روح الحق الذي ينبثق من الأب، فهو يشهد لي، وتشهدون لي أنتم أيضًا؛ لأنكم معي منذ البداية)).
يقول البروفسور عبد الأحد داود في كتابه النفيس (محمد صلى الله عليه وسلم كما في كتاب اليهود والنصارى/ ص: 197، 198): ((إن كلمة (برقليطوس) تعني من الناحية اللغوية البحته: (الأمجد والأشهر والمستحق للمديح) ... والاسم مركب من مقطعين:
الأول: peri ، الثاني: kleitos، ويكتب ( periqlytos) أو ( perqleitos) مما يعني تمامًا اسم أحمد باللغة العربية؛ أي: أكثر ثناءً وحمدًا، ولنا أن نتساءل ما هي الكلمة الأصلية التي استخدمها المسيح بلغته العبرية أو الآرامية ... ومن المدهش أن الوحي قد ميز بين صيغة أفعل التفضيل من غيرها؛ أي (أحمد) من (محمد)، ومن المدهش أيضًا أن هذا الاسم الفريد لم يُعط لأحد من قبل إذ حُجِز بصورة معجزة لخاتم الأنبياء والرسل وأجدرهم بالحمد والثناء، ذلك أن اسم (برقليطوس) لم يُطلق على أي يوناني قط، كما أن اسم أحمد لم يُطلق على أي عربي قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم)).
وأقف هنا لئلا يطول الموضوع، فيملَّ، ويخرج عن المقصود، وأعود فأختصرة الفكرة التي وصلت إليها فأقول:
إنَّ اللغة الأم التي تكلم بها آدم عليه السلام في السماء، ونزل بها إلى الأرض لغة تتميز بما يأتي:
1 ـ الاشتقاق (بنوعيه) الذي جعلها تتولد وتتنامى كما يتوالد الناس، ويقع فيها ولادة وموت وبعث، وما يستعمل في قوم قد يستعمل بمعنى آخر في آخرين، وما يموت عند قوم يبقى معروفًا عند آخرين.
2 ـ هذه اللغة تمتلك ثمانية وعشرين حرفًا أصليًّا، وهي التي بقيت في لغة العرب، ونزل بها القرآن، وأما أخوات اللغة العربية المعيارية من اللغات العربية القديمة، فإنها كلما ابتعدت عن موطنها الأصلي (جزيرة العرب) بدأت تفقد شيئًا من خصائصها، وكلما ابتعد قوم وانعزلوا على مرِّ السنين ابتعد لحنهم عن اللغة الاشتقاقية الأم، فتولدت عندهم لغات جديدة بعيدة عن اللغة الأم إلا من بقايا كلمات هنا وهناك.
3 ـ صارت منطقة العراق والشام ومصر منطقة صراع حضاري، فيأتيها من كان هاجر بعيدًا فابتعدت لغته عن اللغة الاشتقاقية الأم، ويأتي أصحاب هذه اللغة الاشتقاقية، ويقع صراع والغالب يحكم بلغته، وكانت الغلبة في كثير من الأحيان للعرب الخارجين من جزيرتهم العربية، وقد ذكر المؤرخون لهم خمس هجرات عربية كبرى، آخرها ما قام به الصحابة رضي الله عنهم من فتح بلاد فارس والروم.
¥