إن موضوع تصنيف العلوم وترتيبها في كتابةِ علوم القرآن من البحوث المهمة، وهو يحتاج إلى نظر بعد نظرٍ، وتقويمٍ إثر تقويم، وهو مجال واسع لإبداء الملاحظة، ولتنوُّع الرأي.
ولقد سبق أن فتحت باب هذا الموضوع في كتاب (أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن) ثمَّ بدا لي ـ بعد النظر والتقليب في هذا الأمر ـ ما أنا عارضه عليك في هذه الأسطر القادمة، مع يقيني أنه ما زال يمثل رأيًا من الآراء التي قد تتغير مع زيادة البحث أو الملاحظات التي ترد عليه.
وقبل الدخول في تصنيف علوم القرآن وترتيبها أذكر مسألتين متعلقتين بهذا الموضوع، وهما:
الأولى: متى يُعدُّ علم ما أنه من علوم القرآن؟
الثانية: ما الفرق بين علوم القرآن والموضوعات التي تطرَّق إليها القرآن؟
وبعد تحرير هاتين المسألتين سأنطلق إلى الحديث عن ترتيب علوم القرآن.
أولاً: متى يُصنف علم ما في علوم القرآن؟
مما يلاحظ أنَّه لا يوجد ميزان دقيق يُعرف به ما هو من علوم القرآن مما ليس من علومه، لذا أدخل بعض الناس علوم الفلسفة في علوم القرآن، كما أدخل آخرون علوم الطب والكون وغيرها في علوم القرآن.
إن بعض علوم القرآن واضحة الدخول فيه، لكن في بعض ما يُنسبُ إليه من العلوم نظرٌ، والأمر يحتاج إلى ضوابط لمعرفة ما يدخل في علوم القرآن مما لا يدخل.
وقد أشار الشاطبي (ت: 790) إلى بعض الضوابط، فقال:» ... فإذًا تفسير قوله:?أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها? الآية] ق: 6 [بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل = غير سائغ.
ولأن ذلك من قبيل مالا تعرفه العرب، والقرآن إنما نزل بلسانها وعلى معهودها، وهذا المعنى مشروح في كتاب المقاصد بحول الله.
وكذلك القول في كل علم يعزى إلى الشريعة لا يؤدى فائدة عمل ولا هو مما تعرفه العرب فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي ?، كما استدل أهل العدد بقوله تعالى: ?فاسأل العادين?] المؤمنون 113 [.
وأهل الهندسة بقوله تعالى: ?أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها? الآية] الرعد 17 [.
وأهل التعديل النجومي بقوله: ?الشمس والقمر بحسبان?] الرحمن: 5 [.
وأهل المنطق في أن نقيض الكلية السالبة جزئية جزئية موجبة بقوله: ?إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ?] الأنعام: 91 [ ... «(الموافقات، للشاطبي، تحقيق: مشهور حسن آل سلمان (1: 59 ـ 60)).
وقال:» العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام:
قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه؛ كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها، وعلم والقراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك، فهذا لا نظر فيه هنا.
ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه = معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن.
وأما غير ذلك، فقد يعدُّه بعض الناس وسيلة أيضا ولا يكون كذلك، كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى: ?أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج?] ق: 6 [.
وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ» فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال «أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها.
ولو قال قائل: إن الأمر بالضِّدِّ مما قال لما بَعُدَ في المعارضة.
وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم؛ هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن يشهد لهم بذلك النبي ? والجَمُّ الغفير، فلينظر امرؤ اين يضع قدمَه.
¥