ويمكن القول بأن هذه الأمور الثلاثة لها حكم الرفع؛ لأن الصحابي ليس له
في هذه الأمور إلا النقل، وإن نُسب إليه التفسير، فإنما هو على سبيل التوسع في
إطلاق التفسير له، ولأنه هو الناقل له.
ويحترز في هذا الحكم مما يكون من قبيل الاجتهاد في (أسباب النزول)، إذ قد
تُطلق عبارة النزول ويراد بها أن المذكور في النزول داخل في حكم الآية، وكثيراً
ما تصدّر بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا وكذا.
ولذا: قد يرد عنهم أقوال كثيرة في سبب النزول، وهي غير صريحة في
السببية، وإنما تكون داخلة في حكم الآية، وهذا إنما قاله من قاله اجتهاداً منه.
ويلحق بهذا: أحوال من نزل فيهم الخطاب، إذ قد يقع الاجتهاد في حمل
معنى الآية على حالٍ من الأحوال.
وقد يرد في الآية سببان صحيحان صريحان، فتحمل الآية عليهما، ومن ذلك
ما يلي:
ما ورد في سبب نزول قوله (تعالى):] نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ [[البقرة: 223]
روى أبو داود عن ابن عباس، قال: (إن ابن عمر (والله يغفر له) أوهم؛
إنما كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثنٍ مع هذا الحي من يهود وهم أهل
كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان
من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم.
وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذذون منهن
مقبلات مدبرات ومستلقيات.
فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب
يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنّا نُؤتى على حرفٍ، فاصنع ذلك وإلا
فاجتنبني، حتى شَرِيَ (انتشر) أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله (عز
وجلّ):] نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [[البقرة: 223] أي: مقبلات
ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك: موضع الولد). [12]
وروى البخاري عن جابر في نزول هذه الآية ما يلي: (كانت اليهود تقول:
إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت] نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ [) [13].
ففي هذين السببن ترى ما يلي:
1 - أنها تحكي حالاً من أحوال من نزل فيهم القرآن، وقد سبق أن السبب قد
يكون في ذكر حالٍ من أحوال العرب.
2 - أن ابن عباس ذكر السبب في قضية طريقة الجماع في خبر الرجل
القرشي والأنصارية.
3 - أن جابر ذكر السبب في نتيجة إحدى طرق الجماع.
وقد أنزل الله هذه الآية لإبطال هذين الحالين اللذين كان يعمل بهما اليهود
والأنصار.
هذا، وقد أخبر الحاكم أن سبب النزول له حكم الرفع؛ فقد قال بعد حديث
جابر السابق: (هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن
الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا
وكذا، فإنه حديث مسند). [14]
* كما يحترز في المغيبات من أن تكون من مرويات بني إسرائيل، فإذا
سلمت من ذلك فإن لها حكم المرفوع؛ لأن الأمور الغيبية لا يمكن القول فيها
بالاجتهاد.
ومن أمثلته: ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) في تفسير (الكرسي)
بأنه (موضع قدمي الرحمن).
فهذا المثال يتعلق بصفات الله (عز وجل) ولا سبيل للوصول إليها إلا بالنقل،
ولا مجال للاستنباط فيها.
فإن قيل: إن ابن عباس قد اشتهر عنه الأخذ من مرويات بني إسرائيل،
وعليه: فإن هذا التفسير يحتمل أن يكون مما تلقّاه عنهم؟.
فالجواب: أنه لا يُظنّ بابن عباس أنه يرجع إليهم في معرفة صفات الله،
وهم من أهل التعطيل لها، فمثل هذه المسائل المتعلقة بالله لا تؤخذ إلا من المعصوم
في خبره، وهو الرسول.
ثم إن ابن عباس لم ينفرد بهذا التفسير، بل قد صحّ عن أبي موسى [15]
مثل قول ابن عباس، وهذا مما يُعزّز قول ابن عباس، ويدل على تلقيه من
الرسول، والله أعلم.
أما ما يثبت من هذه المغيبات أنه من الإسرائيليات فإنه ينظر إليه:
إن كان موافقاً لما في الكتاب والسنة قُبِلَ، وإن كان مخالفاً لهما رُدّ وترك،
وإن لم تظهر فيه موافقة ولا مخالفة فالحكم فيه: التوقف، والله أعلم.
ثانياً: المصادر الاستدلالية (الاجتهاد):
¥