2 - أمّا ما ورد عن الحسن، فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أريت ما
يفتى به الناس، أشيءٌ سمعته أم برأيك؟
فقال الحسن: ما كل ما يفتى به الناس سمعناه، ولكنّ رَاًيَنا لهم خيرٌ من رأيهم
لأنفسهم) [6].
هذان عَلَمان من أعلام السلف ورد عنهما قولان مختلفان في الظاهر، غير
أنك إذا تدبّرت قولهم، تبيّن لك أن الرأي عندهم نوعان:
* رأي مذموم، وهو الذي وقع عليه نهيهم.
* ورأي محمود، وهو الذي عليه عملهم.
وإذا لم تَقُلْ بهذا أوقعت التناقض في أقوالهم، كما قال ابن عبد البَرِّ (ت:
463هـ) - لما ذكر من حُفِظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً: (ومن أهل البصرة:
الحسن وابن سيرين، وقد جاء - عنهما وعن الشعبي - ذمّ القياس، ومعناه عندنا
قياسٌ على غيرِ أصلٍ؛ لئلا يتناقض ما جاء عنهم) [7]. والقياس: نوع من الرأي؛ كما سيأتي.
العلوم التي يدخلها الرأي:
يدخل الرأي في كثير من العلوم الدينية، غير أنه يبرز في ثلاثة علوم، وهي: علم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم التفسير.
أما علم التوحيد، فيدخله الرأي المذموم، ويسمى الرأي فيه: (هوىً وبدعة). ولذا تجد في كثير من كتب السلف مصطلح: (أهل الأهواء والبدع)، وهم الذين
قالوا برأيهم في ذات الله - سبحانه.
وأما علم الفقه، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى الرأي فيه:
(قياساً)، كما يسمى رأياً، ولذا تجد بعض عباراتٍ للسلف تنهى عن القياس أو
الرأي في فروع الأحكام، والمراد به القياس والرأي المذموم.
وأما علم التفسير، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى فيه: (رأياً)،
ولم يرد له مرادفٌ عند السلف، وإنما ورد مؤخراً مصطلح: (التفسير العقلي).
وبهذا يظهر أن ما ورد من نهي السلف عن الرأي فإنه يلحق أهل الأهواء
والبدع، وأهل القياس الفاسد، والرأي المذموم؛ إذ ليس كلّ قياسٍ أو رأيٍ فاسداً أو
مذموماً.
حُكْمُ القَوْلِ بالرّأي:
سيكون الحديث في حكم الرأي المتعلق بالعلوم الشرعية عموماً - وإن كان
يغلب عليه الرأي والقياس في الأحكام - وقد سبق أن الرأي نوعان: رأي مذموم،
ورأي محمود.
أولاً: الرّاًيُ المَذْمُومُ:
ورد النهي عن هذا النوع في كتاب الله - تعالى - وسنة نبيِّه لله، كما ورد
نهي السلف عنه.
وحَدّ الرأي المذموم: أن يكون قولاً بغير علمٍ وهو نوعان: علم فاسد ينشأ
عنه الهوى، أو علم غير تام وينشأ عنه الجهل، ويكون منشؤه الجهل أو الهوى.
وهذا الحدّ مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله لله.
أمّا من كتاب الله فما يلي:
1 - قوله - تعالى:] قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [[الأعراف: 33].
2 - وقوله - تعالى:] وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
(168) إنَّمَا يَاًمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأََن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [
[البقرة: 168، 169].
3 - وقوله - تعالى:] وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ
كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [[الإسراء: 36].
في هذه الآيات نهي وتشنيع على القول على الله بغير علم؛ ففي الآية الأولى
جعله من المحرّمات، وفي الآية الثانية جعله من اتباع خطوات الشيطان، وفي
الآية الثالثة جعله منهياً عنه. وفي هذا كلِّه دليلٌ على عدم جواز القول على الله
بغير علم.
وأما في سنة الرسول:
فإن من أصرح ما ورد فيها قوله: (إن الله - عز وجل - لا يقبض العلم
انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيقبض العلم، حتى إذا لم يترك
عالماً، اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخاري
في كتاب الاعتصام، وترجم له بقوله: (بابُ ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلف
القياس) [8].
وأمّا ما ورد عن السلف، فمنها:
1 - ما سبق ذكره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن
البصري - رحمه الله - من نهيهما عن الرأي.
2 - عن مسروق (ت: 63هـ) قال: (من يرغب برأيه عن أمر الله
يضلّ) [9].
¥