ومما يمكن التمثيل به من استعانة المفسر بالسنة النبوية، ما رواه الطبري عن
ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة
عن النبي: إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدركه ذلك لا محالة، فزنى
العينين النظر ... ) [13].
ثم إن عدم معرفة السنة التي تفسر القرآن قد تجعل المفسر يجنح إلى مصدر
آخر؛ فيفسر به لعدم ورود هذا التفسير النبوي إليه.
ومما يمكن أن يُمثّل به هنا ما روي عن السلف في تفسير قوله - تعالى:] يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [[القلم: 42] فقد فسّر جمع من السلف الساق بالمعنى اللغوي، أي: عن أمر شديد [14]، ومنهم: ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة
وعكرمة [15].
وقد ورد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (سمعت النبي -صلى
الله عليه وسلم- يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى
من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسُمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً
واحداً) [16].
وهذا الحديث يفسِّرُ الساق الذي جاء في الآية نكرةً لم يُضَفْ، ويبيِّن أن
المراد بالساق ساق ربنا عزّ وجلّ.
ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لاعتُمِدَ قول ابن عباس وتلاميذه في تفسير الساق،
والله أعلم.
وبعد .. فهذه بعض العلوم التي إن جهل المفسر بها فإنه يقع في التأويل الخطأ، ولا يحالفه الصواب في معنى الآية [17].
الثاني: نَظَرٌ في طبقة المفسر:
المفسرون الذين يجب الرجوع إلى أقوالهم، والأخذ بها، وعدم الخروج عنها
هم الصحابة والتابعون وأتباعهم. فما جاء عنهم فإنه لازم لمن بعدهم من حيث
الجملة ولا يجوز مخالفتهم.
وكان عدم الاعتماد على تفسيرهم من أهم أسباب بروز الرأي المذموم، كما
يشير إليه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) بقوله: (وأما النوع الثاني من سببي
الخلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حَدَثَتا
بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يُذكر فيها كلام
هؤلاء صرفاً لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من هاتين الجهتين) [18].
ولما كان لهؤلاء السلف من تقدّمٍ في العلم شهد لهم به كل من جاء بعدهم من
العلماء؛ فإن الاعتماد على أقوالهم مدعاة للخروج عن الرأي المذموم، ولذا جعل
ابن جرير من شروط المفسر أن لا يكون تأويله وتفسيره خارجاً عن أقوال السلف
من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة [19]. ويجب التنبه إلى أن
كل من رجع إلى أقوالهم وتخيّر منها، فإنه قائل بالرأي؛ لأن تخيره معتمد على
عقله كما فصل ابن جرير الطبري في تفسيره.
النوع الثاني: الرأي المذموم وصوره في التفسير:
الرأي المذموم في التفسير هو القول في القرآن بغير علم، سواءً أكان عن
جهلٍ أو قصورٍ في العلم أم كان عن هوى يدفع صاحبه إلى مخالفة الحق، وقد سبق
بيان ذلك مع أدلة النهي عنه.
ومن صور الرأي المذموم ما يلي:
1 - تفسير ما لا يعلمه إلا الله:
وهو أحد أوجه التفسير التي أوردها ابن عباس، ويشتمل على أمرين:
أحدهما: تكييف المغيبات التي استأثر الله بعلمها؛ كتكييف صفاته سبحانه،
أو غيرها من المغيبات.
ثانيها: تحديد زمن المغيبات التي ورد ذِكْرُ خروجها؛ كزمن خروج الدابة،
أو نزول عيسى، أو غير ذلك.
فهذه الأشياء لا سبيل للبشر إلى معرفتها؛ فمن زعم أنه قادرٌ على ذلك فقد
أعظم الفرية على الله.
2 - من ناقض التفسير المنقول أو أعرض عنه:
يشمل التفسير المنقول: كل ما نُقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو
أصحابه أو التابعين وأتباعهم، فمن أقدم على التفسير دون الرجوع إلى التفسير
المنقول فإنه سيقع في الرأي المذموم؛ لأن جُزءاً من التفسير لا يمكن معرفته إلا
عن طريق النقل عنهم؛ كأسباب النزول، وقصص الآي، وناسخها ... وغيرها.
3 - من فسر بمجرد اللغة دون النظر في المصادر الأخرى:
إن التسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع
والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وغيرها؛ مُوقِعٌ في الخطأ، فمن لم يُحكّم ظاهر
التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة
من قال برأيه المذموم [20].
واعتماد اللغة فقط دون غيرها من المصادر، هو أحد أسباب الخطأ الذي يقع
¥