الغالب - وإنما كان ذلك بظهور أقسام العلوم - من نحوٍ وفقه وتوحيد وغيرها -
وتَشَكّلها؛ مما كان له أكبر الأثر في توسيع دائرة التفسير، حتى صار كل عالمٍ بفنٍّ- إذا شارك في كتابة علم التفسير - يصبغ تفسيره بفنِّه الذي برّز فيه.
ويمكن تقسيم العلوم التي يحتاجها من فسر برأيه إلى نظرين:
الأول: نظرٌ في علوم الآية:
ويكون ذلك بالنظر إلى ما في الآية من علوم؛ كالناسخ والمنسوخ، والمطلق
والمقيد، والخاص والعام، ومفردات اللغة، وأساليبها، وهكذا.
وإنما يقال ذلك؛ لأنه ليس في كل آية ما يلزم منها بحث هذه العلوم؛ إذ قد
توجد في آية، وتتخلّف عن آيات.
* وإذا أمعنت النظر وجدت أن علم اللغة هو من أهم العلوم التي يجب على
المفسر معرفتها، ذلك أنه لا تخلو آية من مبحثٍ لغوي.
ومن الآثار التي وردت عن السلف في بيان أهمية اللغة، ما يلي:
1 - عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه
تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء،
وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره) [4].
2 - وروي عن مجاهد (ت: 104) أنه قال: (لا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم
الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب) [5].
3 - وعن يحيى بن سليمان قال: سمعت مالك بن أنس (ت: 179) يقول:
(لا أوتى برجلٍ يفسر كتاب الله غير عالم بلغات العرب إلا جعلته نكالاً) [6].
ولو قرأت في تفسير السلف لوجدت أثر اللغة في التفسير عندهم، ومن
أوضح ذلك استشهادهم بأشعار العرب:
ومن أمثلة أهمية معرفة اللغة لمن فسر برأيه ما يلي:
أ - في تفسير قوله - تعالى:] وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [[التوبة: 47] قال
الأزهري (ت: 37): (قول الليث: الوضع: سيرٌ دونٌ. ليس بصحيح.
والوضع: هو العَدْوُ. واعتبر الليث اللفظ ولم يعرف كلام العرب فيه) [7].
ب - قال الأزهري (ت: 370): ( ... عن أبي حاتم (ت: 255) في قوله:] فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ [[الأنبياء: 87] أي: لن نضيِّق عليه.
قال - أي: أبو حاتم: ولم يدر الأخفش ما معنى] نَقْدِرَ [، وذهب إلى
موضع القُدرة، إلى معنى: فظنّ أن يفوتنا، ولم يعلم كلام العرب حتى قال: إن
بعض المفسرين قال: أراد الاستفهام: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟ ولو علم أن معنى
نقدر: نضيِّق، لم يَخْبِط هذا الخبط، ولم يكن عالماً بكلام العرب، وكان عالماً
بقياس النحو) [8].
* ومن العلوم التي يلزم معرفتها الناسخ والمنسوخ وما شابهه من المباحث؛
كالمطلق والمقيد، والخاص والعام، ومعرفتها لازمة للمفسر بلا شك، ومن الآثار
التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: (انتهى
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رجل يقصّ [9]، فقال: أعلمتَ
الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكتَ وأهلكتَ) [10].
وقد استدل مَنْ كتب في علم الناسخ والمنسوخ في القرآن بهذا الأثر لبيان
أهمية هذا العلم. وإذا كان علي رضي الله عنه قد اعترض على القاصِّ؛ فالمفسر
من باب أوْلى ينبغي أن ينبّه إلى ذلك، لما في جهل هذا العلم من أثر في عدم فهم
التفسير.
* ومن العلوم سبب النزول وقصص الآي؛ ذلك أن معرفة سبب النزول
وقصص الآي يفيد في معرفة تفسير الآية.
ومن الأمثلة التي تدل على أهمية معرفة هذا الجانب، وأن عدم معرفته يوقع
في الخطأ، ما وقع لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت: 210) في تفسير قوله تعالى:] وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [[الأنفال: 11] حيث قال: (مجازه:
يفرغ عليهم الصبر، وينزِّلُه عليهم، فيثبتون لعدوهم) [11].
وسبب النزول يدلّ على خطأ أبي عبيدة في تفسيره هذا، فلما لم يعرف
السبب نحى في تفسيره هذا المنحى اللغوي الذي لا تدلّ عليه الآية بسببها.
والتثبيت المذكور في الآية حقيقي، وهو أن أقدام المسلمين لا تسوخ في
الرمل لما نزل عليه المطر، وبهذا جاء التفسير عن الصحابة الذين شاهدوا النزول، وعن التابعين الذين نقلوا عنهم [12].
* ومنها معرفة السنة النبوية، ويكون ذلك بالرجوع إلى صريح التفسير عن
النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يكون بالرجوع إلى أقواله وأفعاله التي لها أكبر
الأثر في فهم القرآن.
¥