بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [(المائدة: 12)؛ حيث حكى الإجماع
على أن النقيب «هو كبيرُ القوم القائم بأمورهم التي ينقِّب عنها وعن مصالحهم
فيها».
وقد فسره الحسن بأنه: الضمين، وفسره قتاده بأنه: الشاهد، وفسره الربيع
بن أنس بأنه: الأمين، قال ابن عطية بعد ذكر هذه الأقوال: «وهذا كله قريب
بعضه من بعض»، وقال ابن الجوزي: «وهذه الأقوال تتقارب».
أما القسم الثاني بنوعيه: فإن الخلاف أيضاً لا يؤثر على حكاية الإجماع؛
لأن الأقوال متفقة على المعنى، فإذا حُكيَ الإجماع على نحو تجتمع فيه الأقوال،
وليس فيه إلغاءٌ لأحدها، فإن الإجماع صحيح، ولا يُنتَقض أو يُعترض عليه بمثل
هذا الاختلاف.
قال ابن جُزي رحمه الله مبيناً أقسام اختلاف التنوع:
الأول: اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى، فهذا عَدَّهُ كثير من المؤلفين
خلافاً، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولاً واحداً، وعبرنا
عنه بأحد عبارات المتقدمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها.
الثاني: اختلاف في التمثيل، لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس
مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العام الذي تندرج تلك
الأمثلة تحت عمومه؛ فهذا عدَّه كثير من المؤلفين خلافاً، وليس في الحقيقة بخلاف؛ لأن كل قول منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعده نحن خلافاً؛ بل عبرنا عنه
بعبارة عامة تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل مع
التنبيه على العموم المقصود» [9].
ومن الشواهد على ذلك الخلاف: ما ذكره المفسرون في تفسير (المحروم)
في قوله تعالى:] وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [(المعارج:
24 - 25)، قال ابن عطية: «واختلف الناس في (المحروم) اختلافاً هو عندي
تخليط من المتأخرين؛ إذ المعنى واحد، وإنما عبر علماء السلف في تلك العبارات
على جهة المَثُلات، فجعلها المتأخرون أقوالاً» وذكر جملة من أقوالهم ثم قال:
«والمعنى الجامع لهذه الأقوال: أنه الذي لا مال له، لحرمان أصحابه» [10].
هذا إذا حُكي الإجماع على قول يجمع بين الأقوال، أما إذا حُكِي الإجماع على
أحد تلك الأقوال، فإن حكايته على هذا النحو قد تكون إلغاءاً للأقوال الأخرى؛ لذا
فإنه يُستفصلُ عند حكاية الإجماع: هل المراد به أن يكون القول الذي حُكِيَ الإجماعُ
عليه هو أحدُ ما يراد بالآية وتفسر به، أو هو المراد وحده مع نَفْي ما عداه؟
فإن كان الثاني فإن حكاية الإجماع لا تصح؛ لوجود الخلاف، وإن كان الأول
فلا يقال بأنه صحيح بإطلاقٍ لوجود الاحتمال، وإن كان الغالب الصحة.
ومن أمثلته:
ما ذكره الماوردي في تفسير (الحق) من قوله تعالى:] بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ [(ق: 5)؛ حيث ذكر أن المراد به: «القرآن في
قول الجميع»، وقد وَرَدَ عن المفسرين في الآية ستة أقوال أخرى، فقيل: الإسلام،
وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: البعث، وقيل: هو ضد الباطل،
وقيل غير ذلك.
وعليه فقولُ الماوردي: «إنه القرآن في قول الجميع»، إن كان مرادُه أن
الجميع لا يقولون إلا بهذا، فهذا لا يُسَلَّمُ له، وإن كان مراده أن التكذيب بأيِّ واحد
من هذه الأمور المذكورة فسيؤول إلى التكذيب بالقرآن، أو كان مراده أن التكذيب
بالقرآن يعني التكذيب بها؛ لأنه جامع لجميع هذه الأمور، فهذا صحيح لا شك فيه.
الأسباب التي توقع المفسر في مخالفة الإجماع:
أكثرُ من رأيتُهُ ينقل خلافَ المأثور عن سلف الأمة هم متأخرو المفسرين،
وخصوصاً أهلَ البدع في العقائد منهم كالمعتزلة وسائِر فرق المبتدعة؛ ولذلك
أسباب عدة أكتفي بالإشارة إلى أهمها:
الأول: ضعفُ عنايتهم بآثار السلف وإجماعِهم وخلافِهم، وعدمُ التمييز بين
صحيح الروايات الواردة عنهم وضعيفها، فإذا نقلوا فإنهم يروون الغرائب
والضعاف والمناكير التي لا توجد في الكتب المعتمدة من كتب التفسير بالمأثور،
والتي تُعْنَى بنقل أقوال السلف، وتحرير ألفاظهم وعباراتهم. قال ابن الحاجب:
¥