(خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية ص:21) ولكن بعد تأمل ما تقدم ذكره من التعريف اللغوي والتعاريف الأخرى، وبناءً على ما ترجح في أحكامها يمكن أن أعرّفها تعريفا تقريبيا بأنها: ما يُلقى من الكلام المتوالي الواعظ باللغة العربية قبيل صلاة الجمعة بعد دخول وقتها بنية جهرا قياما مع القدرة على عدد يتحقق بهم المقصود.)
مكانة خطبة الجمعة في الإسلام
لخطبة الجمعة في الإسلام منزلة عظيمة، يتبين ذلك من خلال ما يأتي:
أولاً: كان تشريع خطبة الجمعة في أعظم أيام الأسبوع، وجعلها أيضاً قرينة لصلاة الجمعة، وسابقة لها، بل ونسبتها إلى هذا اليوم الفضيل، وتسميتها بخطبة الجمعة من أول الدلائل التي تدل على مكانة هذه الشعيرة العظيمة، بل عد الإمام ابن القيم - رحمه الله – (زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 386): (خطبة الجمعة من خصائص هذا اليوم الكريم فقال ـ رحمه الله ـ (الثانية والعشرون: أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بالرسالة , وتذكير العباد بأيامه , وتحذيرهم من بأسه , ونقمته ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه , ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره , فهذا هو مقصود الخطبة , والاجتماع لها)، ولا خلاف بين العلماء أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، و أنه خير يوم طلعت فيه الشمس، فعن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، و فيه أدخل الجنة، و فيه أخرج منها،و لا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة) رواه مسلم (854).
ثانياً:القول أن خطبة الجمعة شرط لصحة الجمعة: وبه قال الأئمة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - رحمهم الله تعالى. (وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله).
ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى ندب لها، وذم من انشغل عنها بغيرها، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [9] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [10] وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [11]} [الجمعة / 9 - 11، فقد رجح الإمام القرطبي وغيره أن المراد بذكر الله في الآية: خطبة الجمعة، حيث قال في تفسير قول الله سبحانه (10/ 16) (إلى ذكر الله): أي الصلاة، وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير، ابن العربي والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة، وبه قال علماؤنا ... ).
رابعاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- اختار أن يتولى خطبة الجمعة بنفسه، فالإمامة والخطابة مهام اختار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتولاها بنفسه، وهذه مزية لخطبة الجمعة أيضاً، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون) رواه البخاري (920) ,ومسلم (861).
بل تعدت خطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي خطبها في أصحابها الألفي خطبة، وبذلك صرح الصحابي الجليل جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ فقد أخبر (أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً.فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة) رواه مسلم (862).
ثم إن من اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجمعة قبل أن يصل المدينة في هجرته المباركة، حيث أرسل صاحبه مصعب بن عميرـ رضي الله عنه ـ إلى المدينة ليعلمهم الدين، و هناك استقر عند أسعد بن زرارة ـ رضي الله عنه ـ وعنده أقيمت أول صلاة للجمعة في المدينة، فعندما بلغوا الأربعين شخصاً أمَهم مصعب ـ رضي الله عنه ـ، فقد روي أنه كتب له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجّمع بهم.
¥