ثم بعد أن مات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورثها من بعده خلفاؤه الراشدون، وهم أركان البلاغة، ودعائم البيان، وسادات الفصاحة، ثم من بعدهم ملوك بني أمية وعمالهم، ثم خلفاء بني العباس، ثم اتسعت حتى أصبحت في العلماء والمشايخ، إلى أن اتسع نطاقها لما هو أبعد من ذلك حتى أصبح في مصرٍ واحدٍ في هذا العصر أكثر من ألفي جامع، ولله الحمد والمنة.
خامساً: إن المتتبع لمقاصد خطبة الجمعة يجد كثيراً من المقاصد السامية ومن ذلك:
1 ـ أن خطبة الجمعة من الدعوة إلى الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل / 125.
2 - وهي من البلاغ المأمور به، عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (بلغوا عني ولو آية .. ) الحديث رواه البخاري (3461).
3 - وخطبة الجمعة فيها تمثل لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران104/
-4التذكير مقصد آخر من مقاصد خطبة الجمعة، قال تعالى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذاريات/ 55
-5التعليم والنصح مقصدان عظيمان من مقاصد خطبة الجمعة، عن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم إن الله و ملائكته، حتى النملة في جحرها، و حتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير) رواه الترمذي (2685) وصححه الألباني (في صحيح الجامع: 1838).
وغير ذلك من المقاصد العظيمة من الدلالة إلى الخير، والتحذير من الشر، والاجتماع، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح، والتربية، وغير ذلك كثير، فخطبة الجمعة محضن عظيم، تتضمن كل ما فيه صلاح المسلم في دينه ودنياه.
سادساً: مكانة الخطبة الرفيعة من مكانة المسجد في الإسلام، فالخطب في المسجد الجامع، والمسجد له مكانته العظيمة في الإسلام، فالمساجد أفضل بقاع الأرض، قال - صلى الله عليه وسلم -: (خير البقاع المساجد .. ) الحديث رواه الحاكم (277) , عن ابن عمر (صحيح الجامع: 3271)، ومنها انطلق نور الإسلام للبشرية، وكانت ومازالت - لله الحمد - دور العبادة، والطاعة، والعلم، والدعوة.
سابعاً: وإن من مكانة خطبة الجمعة، أن نُدب المسلم للتبكير للاستماع لها، والتهيئة لذلك، فقد رتب الشارع الحكيم على التبكير للحضور يوم الجمعة أجراً عظيماً، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم ـ قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة،ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذاخرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر (رواه البخاري (881) , ومسلم (850)
كما أن الشارع الحكيم حث على الإنصات للخطبة، وحذر من التهاون في ذلك، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا) رواه مسلم (857)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) رواه البخاري (934) , ومسلم (851)
ثامناً: ومن المعاني التي تستشعر فيها مكانة خطبة الجمعة في الإسلام، أن جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها مكاناً محدداً، ومنبراً خاصاً، فقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتخذ منبراً، وخطب عليه.
فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً، قال: إن شئتم، فجعلوا له منبراً فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر ... ) الحديث، رواه البخاري (449)
¥