المرتبة الأخيرة في التفسير في العلم بالتفسير أن التفسير هداية للناس، والقرآن أنزل ليكون هاديا للناس ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ? [الإسراء:9]، فالقرآن ما نزل ليكون ميدانا لتقرير علوم نظرية أو علوم فرعية إنما نزل القرآن لهداية الناس بإصلاح الناس جميعا، القرآن نزل للعلم بالله جل وعلا، والعلم بما يحبه جل وعلا ويرضاه وما يسخطه سبحانه ويأباه، لعلم بالتوحيد توحيده سبحانه العلم، بالأحكام وما يتصل بذلك من أخبار الماضين ومستقبل الماضين والأحياء، والأمثال والعبر التي تصلح نفس الإنسان.
إذا كان كذلك فليُعلم أن القرآن حجة الله جل وعلا إلى قيام الساعة.
وإذا كان كذلك فهو هداية للناس إلى قيام الساعة.
وإذا كان كذلك فطالب العلم بالتفسير يجعل كلامه وتفسيره يناسب الزّمن الذي يعيش فيه، أما ممارسة الهوايات في العلوم فهذا يؤجر صاحبه عليه بحسب نيته؛ لكن ليس هو الغرض من علم التفسير، الغرض من طلب علم التفسير أن تتعلم هذا العلم لتهدي الناس بالقرآن.
ولهذا قال شيخ الإسلام في موضع كل داع أو مبلّغ أو هاد لا يهدي الناس بكلام الله جل وعلا وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه مقصِّر. أو كما قال؛ يعني أن كلّ هداية انطلاقها من كلام الله جل وعلا وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنّ السنة مبينة للقرآن والقرآن أُنزل للهداية وهما الحق الذي لا يعتريه نقص، وإذا كان الأمر على هذا فإن طالب العلم بالتفسير إذا ضبط المراتب السابقة ينطلق بالتفسير بما يناسب الزمن الذي يعيش فيه؛ لكن بالعلم لا بالجهل؛ لأن أناسا وعظوا ودعوا بالتفسير لكنهم عن جهل فوقعوا في استدلالات باطلة وبعضها ربما كان مكفرا من جهة نزعه لشيء لم يُقل به البتة، ومن جهة أنه غلط في فهم الآية أصلا فقلب الأمر، وربما أني أعرف بعض الأشياء في هذا.
إذن فطالب العلم بالتفسير إذا طلب هذا العلم وأحسنه فإن الغرض منه هداية الناس بالقرآن، وهذا يُلحظ من جهتين:
الجهة الأولى: أن الحق في التفسير واضح منته لا يظنّن ظان أنه سيخرج تفسيرا لم يعهد عن الأولين، هذا أمر مقطوع به؛ لأن الحق في هذه الأمة باقٍ، ولا يجوز أن يخلو زمن من الحق في مسألة من المسائل؛ بل إن قول القائل إن هذه الآية لم يفهمها المتقدمون جميعا. هذا لاشك أنه باطل من القول؛ بل إن قال: إنهم أجمعوا على الخطأ فيها أيضا هذا باطل من القول؛ لكن إن قال مثل ما قال شيخ الإسلام أشكلت على كثير من العلماء، أشكل على كثير أو الأكثر من العلماء؛ بل لا تكاد تجد في التفاسير على كثرتها القول الصواب فيها فيكون هذا من جهة التحقيق والعلو الذي يناسب شيخ الإسلام رحمه الله وأمثاله.
وأما نحن ومن على شاكلتنا فإنما قصارى جهد في الجهة الأولى هذه أن ننزع إلى فهم ما قاله العلماء فيمن قبلنا، نفهم ما قالوه إذا فهمنا ما قالوه، فتأتي الجهة الثانية أن تعبر عما قالوه بما يناسب الزمن، وهذا هو الذي جعل بعض الناس يخلط في مسألة تبليغ القرآن أو عرض التفسير، سواء في خطبة أو دعوة أو في محاضرة أو في كتاب أو في قصة إلى آخره، فينزع من جهة تحبيب الناس أو هداية الناس لا على ركون إلى علم صحيح، وهذا له أمثلة وربما تعلمون من ذلك أمثلة.
... أما الحق في نفسه فهو واضح منتهٍ، فأنت إذا عرضتَ الحق الواضح الذي أدركت عليه أو أدركته عمّن قبلك يعني من أهل العلم وقفت عليه بدليله وظهور حجته فعرضته للناس هذا هو الذي عليك، وهذا يختلف باختلاف الناس، ربما يكون عند فلان مثلا ضَعف في التعبير عن ما فهمه من التفسير، وعند الآخر سَيَلان في الذهن وفي التعبير وعن ما فهم من كلام أهل العلم فأثّر على الناس بالناس بالتفسير ما لم يؤثِّر الآخر هذا راجع إلى أسلوب نقل هداية القرآن.
ولهذا التصنيف في التفسير إذا لم يكن الغرض منه هداية الناس بالقرآن فلا حاجة لنا بالتفاسير، التفاسير منتهية، إذا كان الغرض منه هداية الناس بالقرآن، يوضح العقيدة الصحيحة من خلال القرآن، يوضح السلوك، الإيمان، يزكي النفس، يبين الأمثال التي في القرآن، القصص بأسلوب يناسب العصر ويناسب الناس، فإن هذا هو المطلوب، وهذه آخر مرتبة، وليست أول مرتبة، بعد أن يمشي في المراتب تلك بعد ذلك يكون عندنا من يؤثر في الناس بالقرآن، وهذا هو الذي نحتاجه؛ لأن هداية الناس بالقرآن يخضع لها الجميع.
وما أجمل قول شيخ الإسلام رحمه الله وهو في سجنه رحمه الله تعالى في آخر حياته إذ قال: ندمتُ على أني لم أجعل حياتي كلها في تفسير القرآن. لأن تفسير القرآن بمكن أن تدخل فيه جميع أنواع الهداية للناس واحتجاج المحتج عليك يكون ضعيفا، ذكرت معنى الآية بكلام أهل العلم، هذا معنى الآية وهذا كلام أهل العلم، إذا كان أنه يعترض يعترض على التفاسير، إذا كان يَعترض يعترض على الأئمة، ابن جرير رحمه أهل أجمعت الأمة على أنه إمام المفسرين حتى أصحاب البدع من الأشاعرة أجمعوا على أنه هو إمام المفسرين.
فإذن الهدايات كلها بأنواعها؛ يعني هداية الناس في أفرادهم في مجتمعاتهم هداية الأسر راجعة إلى هداية القرآن، فمن وُفق لفهم التفسير وعرضه عرضا صحيحا على الناس بالحجة والبيان فإنه يكون قد أوتي خيرا كثيرا.
هذه المراتب اجتهادية من واقع التجربة، وليست علما تأصيليا مطلقا، وإنما هي بداية في تأصيل علم التفسير؛ لأن علم التفسير لم يكتب فيه، لا في أصوله، أصول التفسير كتابة جيدة، ولا في مناهج المفسرين بعامة كتابة جيدة، ولا في مراتب أخذ العلم ومنهجية أخذ العلم.
فهي إذن خطوة، والذي ينبغي لطلاب العلم -كما ابتدأنا الحديث أن نختمه- الذي ينبغي على طلاب العلم أن يعتنوا كثيرا من معرفة معاني كلام الله جل وعلا فإنه والحق المطلق في جميع ما اشتمل عليه، فكل هداية وصواب ستجدها إن شاء الله تعالى في القرآن، إمّا على التفصيل وإما على الإجمال.
اللهم نوِّر قلوبنا بالقرآن واجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء همومنا وغُمومنا.
اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا ومن عليه بتلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¥