تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).

فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا))).

فعبارة أبي هريرة: (نسخها)، أي: نسخ المعنى المتوهم في الآية الأولى.

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (14: 106): (( ... والمقصود هنا أن قوله تعالى: (وإن تبدوا ما فى انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)) حق، والنسخ فيها هو رفع فَهْمِ من فَهِمَ من الآية ما لم تدل عليه، فمن فَهِمَ أن الله يكلف نفسا ما لاتسعه، فقد نسخ الله فهمه وظنَّه، ومن فَهِمَ منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه، فقوله: (لايكلف الله نفسا إلا وسعها) ردُّ للأول. وقوله: (لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت) رد للثاني ... )).

وقال في الفتاوى (14: 69): ((وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يُظن أن الآية دالة عليه)).

وهذا المثال الوارد عن أبي هريرة يمكن أن يدخل في بيان المجمل، غير أنه يقع فيه فهم غير مراد فتأتي الآية الأخرى ببيان المراد، فيرتفع المعنى الذي ألقي في نفوسهم، بخلاف المجمل الذي لا يبين المراد منه أولاً.

فإذا وقع فهم لها منه ثم جاء البيان بآية أخرى، فهو من القسم الثالث، وإن لم يقع فهم أوليُّ، بل كان المعنى مشكلاً مطلقًا، ثم جاء البيان بآية أخرى فهو من قبيل المجمل.

والذي يدل على نسخ المعنى الذي يقع في الأفهام، قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج:52).

3 ـ إذا تبينت أحوال النسخ عند السلف، فالذي يظهر لي أن ابن عباس قد أغرب في عبارته، وأن مراده أن يرفع توهم وقوع النكوص عن هذا الأمر المكروه، وعدم الرضا به من الصحابة الكرام، إذ قوله تعالى: (سمعنا وأطعنا) فيه إشارة إلى وقوع امتثال الأمر، والآية فيها إلماح بغير ذلك في قوله (وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم)، إذ قد يقع في الذهن احتمال عدم الرضا أو العمل، فأراد ابن عباس أن ينفي هذا الاحتمال، وأن يبين أن الصحابة كان أمرهم على الامتثال.

وهذا التخريج ـ مع غرابته ـ مطروح للمدارسة في فهم عبارة ابن عباس رضي الله عنه، وباب تخريج الأقوال أوسع من باب الاستدلال.

ويظهر من هذا المثالين أنَّ الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعْمِلُ مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثل هذا المثال، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر، وهي أن تعرف مصطلح كلِّ قوم، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم، فتقع في الخطأ.

مسألة متممة لمبحث النسخ عند السلف:

يقع السؤال عن كيفية إدراك أن السلف أرادوا بلفظ النسخ غير النسخ الاصطلاحي؟

والجواب أن يقال:

إن كان النص الذي ورد عليه لفظ النسخ خبرًا، فاحمله على مطلق الرفع لجزء من معنى الآية، ويمكن أن يصطلح عليه بالنسخ الجزئي.

ثم ابحث عن الأنسب له من تقسيمات المتأخرين، فقد يكون تقييد مطلق، وقد يكون بيان مجمل، وقد يكون تخصيص عامٍّ، وقد يكون استثناءً من مستثنى منه.

ولا يصح بحال أن يكون مرادهم بالنسخ هنا النسخ الكلي للمعنى؛ لأن هذا النسخ الكلي لا يأتي إلا في الأحكام.

وإن كان النص الذي ورد عليه لفظ النسخ حُكمًا شرعيًا، فإنه لا يُصار إلى الحكم بمراد الواحد منهم أنه أراد النسخ الكلي في اصطلاح المتأخرين إلا إذا دلت عبارته على ذلك، أما إذا كانت عبارةً مطلقة فالأولى حملها على المناسب لها من تقسيمات المتأخرين من تقييد مطلق، أو بيان مجمل، أو تخصيص عامٍّ، أو استثناءً من مستثنى منه.

أما إذا كان النص مما ثبت فيه النسخ بلا إشكال، فالصحيح أن تُحمل عبارتهم على النسخ الاصطلاحي الكلي، والله أعلم.

ومن حرَّر النسخ على هذا السبيل بان له أنَّ النسخ الاصطلاحي الكلي لم يكن كثيرًا عند السلف، خلافًا لما توهمه بعض المعاصرين من كثرته عنهم، وراح يردُّ أقوالهم، ويخطِّئ أفهامهم.

والسبيل في التعامل مع أقوال السلف أن تبحث العلل والأسباب الموجبة لهم بهذا القول أو ذاك، وعدم الردِّ لها إلا بعد أن تنفذ السبل في قبول رأيهم أو توجيهه، ذلك أنَّ هؤلاء أعلم منا بكتاب الله، وأتقى منا لله، فلا يُشنَّع عليهم بسبب أقوالٍ لم نفهم نحن مرادهم بها، ولا أدركنا فقههم فيها، والاعتذار لهم في أقوالهم، وتخريجها على المخرج الحسن هو السبيل الأمثل الأقوم، والله الموفق.


الدكتور مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض
[email protected]
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=1229
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير