والمعنى الأصلي لهذه اللفظة، وهو المخالطة والمداخلة لم يتأخر في أي استعمال من هذه الاستعمالات، وإن كان قد يغيب؛ لأنَّ النظر في السياقات إلى الاستعمال، وليس إلى أصل الاشتقاق.
وللحديث بقية
ـــــــــــــــــــ
(1) يمكن أن يكون تسمية الثوب من معنى آخر ذكره ابن فارس، قال: ((والثوب الملبوس محتمل أن يكون من هذا القياس؛ لأنه يلبس ثم يلبس ويثاب إليه)).
(2) مسألة اختلاف العلماء في أصل المادة مما أرجأت الحديث عنه لأنظر هل له أثر في بيان المعاني واختلافها في السياقات القرآنية، أو أنَّ الاختلاف ليس له أثر من هذه الجهة، وإن ظهر لي فيها شيءٌ فإني سأطرحه لاحقًا إن شاء الله.
==============================================
المفردة القرآنية .. المراحل التي تمرُّ بها حال تفسيرها (3)
ثالثًا: الاستعمال السياقي
هذه هي المرحلة الثالثة التي تقع للمفردة القرآنية، فأي كلمة لها في سياقها معنى مراد، قد يكون خارج المعنى اللغوي المطابق، وهذا المعنى المراد للكلمة في هذا السياق قد يكون في أكثر من سياق قرآني، وقد لا يكون له إلا سياق واحد.
ومن الاستعمال السياقي انطلقت كتب الوجوه والنظائر (1) في تعيين الوجوه للألفاظ القرآنية، لذا تعدَّدت الوجوه للفظ الواحد الذي يعود إلى معنى لغوي واحدٍ؛ لأنه لا اعتبار لأصل اللفظ ولا لاستعمال العرب في تحديد الوجوه إلا إذا كان هو المعنى المراد في السياق.
ومن أمثلة ذلك في كتب الوجوه والنظائر:
ـ قال الدامغاني (ت: 478): ((تفسير إفك على سبعة أوجه: الكذب. عبادة الأصنام. ادعاء الولد لله تعالى. قذف المحصنات. الصرف. التقليب. السحر.
فوجه منها: الإفك؛ يعني: الكذب، قوله تعالى في سورة الأحقاف: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (الأحقاف: من الآية11)؛ يقولون: كَذِبٌ تَقَادَم، ونظيره فيها: (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ) (الأحقاف: من الآية28)، ونحوه كثير.
والوجه الثاني: إفك: عبادة الأصنام، قوله تعالى في سورة والصافات: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) (الصافات: 85 ـ 86)؛ يعني: عبادة آلهةٍ دون الله.
والوجه الثالث: الإفك: ادعاء الولد لله تعالى، قوله تعالى في سورة الصافات: (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الصافات: 151 ـ 152).
والوجه الرابع: الإفك: قذف المحصنات، قوله تعالى في سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) (النور: من الآية11)؛ يعني: بهتان عائشة رضي الله عنها.
والوجه الخامس: الإفك: الصرف، قوله تعالى في سورة والذاريات: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (الذريات:9)، كقوله تعالى في سورة الأحقاف: (لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) (الاحقاف: من الآية22)؛ أي: لتصرفنا، ونحوه كثير.
والوجه السادس: الإفك: التقليب، قوله تعالى في سورة والنجم: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) (النجم:53)، كقوله تعالى في سورة الحاقة: (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) (الحاقة: من الآية9).
والوجه السابع: الإفك: السحر، قوله تعالى في سورة الشعراء: (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) (الشعراء: من الآية45).)) (الوجوه والنظائر للدامغاني / تحقيق: فاطمة يوسف / ص: 72 ـ 74).
وإذا رجعت إلى تحليل هذه اللفظة من جهة الاشتقاق والاستعمال العربي ظهر لك ما يأتي:
1 ـ قال ابن فارس: (الهمزة والفاء والكاف أصل واحد يدلُّ على قلب الشيء وصرفه عن وجهه) (مقاييس اللغة / مادة: أفك).
وزاد الراغب قيدًا في أصل المادة، فقال: (كل مصروف عن وجهه الذي يحقُّ أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهابِّ: مؤتفكة …). (المفردات: ص: 79).
وهذا يعني أنَّ هذه الدلالة الأصلية ستكون موجودة في جميع الوجوه المذكورة، وهي كذلك:
فالكذب فيه معنى القلب والصرف، فهو قلب للحق باطلاً، وللباطل حقًّا.
وعبادة الأصنام قلب لعبادة الحقيقة إلى العبادة الباطلة.
وادعاء الولد لله تعالى قلب للحقيقة التي هي الوحدانية إلى الإشراك.
¥