دليل على الجملة؛ ولذلك حُكِيت أقوالهم، واعْتُدَّ بتسطيرها، والنظر فيها» [25].
ثم قال: «وفي الحقيقة، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حَصَل التآلف، ومن
جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة، وإذا كان كذلك فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في
الحقيقة؛ لصحتها واتحاد حكمها، وجهةُ الاختلاف فهم مخطئون فيها قطعاً،
فصارت أقوالُهم زلاتٍ، لا اعتبار بها في الخلاف» [26].
ويضاف إلى هذه الأسباب جملة أخرى من الأسباب التي يقع بعض المفسرين
لأجلها في خرق الإجماع أذكرها متمماً لما سبق على سبيل الإيجاز.
الرابع: الاعتداد بالقول الشاذ: أو بما يُسَمَّى: «زلة العالم»، حيث يذكر
بعض المفسرين الخلاف في مسألة قد وقع فيها إجماع سابق، بناءاً على اعتبار قول
لا يعتد به لشذوذه.
وقد قرر الإمام الشاطبي: «أن زلة العالم لا يصحُّ اعتمادها من جهة، ولا
الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع؛ ولذلك عُدَّت زَلّة،
وإلا فلو كانت معتداً بها لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزللُ فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبُها إلى التقصير، ولا يشنَّعَ عليه بها، ولا
يُنتقَص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً؛ فإن هذا خلاف ما
تقتضي رتبته في الدين» [27].
ثم بيَّن رحمه الله: «أنه لا يصح اعتمادُها خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها
لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من
صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال
غير المجتهد، وإنما يُعدُّ في الخلاف الأقوالُ الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة
كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم
مصادفته [28] فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتدَّ بها في الخلاف، كما لم يعتدَّ السلفُ
الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة ... ، وأشباهها من المسائل التي
خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها» [29].
ونصَّ رحمه الله على أن من الخلاف الذي لا يعتد به في الخلاف «ما كان
من الأقوال خطأً مخالفاً لمقطوع به في الشريعة» [30].
وقد تساءل رحمه الله عن كيفية معرفة ما هو من الأقوال كذلك مما ليس
كذلك؟ وأجاب: بأن هذا من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف؛ لأن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب، فمن الأقوال ما يكون خلافاً لدليل قطعي، من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي، ومنها ما يكون خلافاً لدليل
ظني، والأدلة الظنية متفاوتة.
أما غير المجتهدين من المتفقهين فإن لمعرفة ما كان من الأقوال كذلك ضابطاً
تقريبياً، وهو أن ما كان معدوداً من الأقوال غلطاً وزللاً قليلٌ جداً في الشريعة،
وغالبُ الأمر أن أصحابها منفردون بها، وقلَّما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا
انفرد صاحبُ قولٍ عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من
المجتهدين لا من المقلدين [31].
ومن أمثلة الأقوال الشاذة:
1 - قولُ نوفٍ البكالي في أن موسى الذي جرت له القصة مع الخضر
والمذكورة في سورة الكهف ليس موسى بن عمران كليم الرحمن، بل هو موسى
آخر، وقد رد ذلك عليه ابن عباس رضي الله عنهما وأغلظ في الرد عليه، فقال:
«كذب عدو الله»، ثم ساق الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل
قطعاً على أن المراد به موسى بن عمران عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
قال ابن الجوزي عن قول نوفٍ هذا: «وليس بشيء». وقال الشوكاني:
«وهذا باطلٌ قد ردَّه السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم».
2 - ما روي عن الحسن و عطاء الخراساني أنهما قالا في تفسير قوله تعالى
] اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ [(القمر: 1): «إنه سينشق يوم القيامة»
والمفسرون قاطبة مجمعون على أن المراد بالآية: انشقاقه معجزةً لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عندما طلب منه المشركون ذلك. قال ابن الجوزي عن المروي عن
الحسن وعطاء: «هذا القولُ الشاذُّ لا يقاوم الإجماع».
الخامس: الاعتدادُ بقولٍ قد انعقد الإجماع قبل حدوثه: وهو قريب من الذي
قبله ومن أمثلة ذلك:
إجماعُ العلماء على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وقد حكى بعضُ
¥