وقد تقدم عند الكلام عن شروط القراءة المقبولة ما يدل على أنّ الحافظ لم يحصرها في السبع ولا في العشر، فإذا صحّ نقل "القاضي" عنه دلّ على حصرها في العشر ونسخ ما تقدم.
ومن خلال تأمل أقواله السابقة يمكن استخلاص الآتي:
1) أنّه أطلق مصطلح " القراءة الشاذّة " على ما صحّ سنده ووافق العربية لكنّه خالف رسم المصحف، وقد وافق في ذلك ما ذكره ابن الجزري في قوله: (فهذه القراءة تسمّى اليوم شاذة لكونها شذّت عن رسم المصحف المجمع عليه، وإن كان إسنادها صحيحاً، فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها) أهـ ([302]). وقد ذهب إلى هذا الاصطلاح مكي بن أبي طالب وأبو القاسم الهذلي وأبو شامة وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم كثير. ([303])
2) أنّه اعتبر القراءة الشاذة – بالمعنى المذكورـ حجة وليست بقرآن، وأنّ حكمها حكم التفسير. وقد نصّ على هذا كثير من الأئمة، منهم أبو عبيد حيث قال ما ملخصه: (المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة، وتبيين معانيها، كقراءة عائشة وحفصة: (الوسطى صلاة العصر) أي من قوله تعالى" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" ([304])، وقراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما) أي من قوله تعالى:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" ([305])، وقراءة جابر: (فإنّ الله من بعد إكراههن لهنّ غفور رحيم). ([306]) قال: فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن. وقد كان يُروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن، فكيف إذا روي عن كبار الصحابة ثم صار في نفس القراءة، فهو أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل). ([307])
قلت: وقد عبّر ابن الجزري عن حكم هذا النوع بقوله: (فهذا يُقبل ولا يُقرأ به) أهـ. ([308])
كما نقل السيوطي عن القاضيين أبي الطيب والحسين وعن الروياني والرافعي والسبكي العمل بالقراءة الشاذة تنزيلاً لها منزلة خبر الآحاد، والله أعلم. ([309])
10 - موقفه من الترجيح بين القراءات:
الغالب من فعل الحافظ أنه لا يرجح بين القراءات المقبولة فيما وقفت عليه لكن في مواضع قليلة جداً أورد ما يشعر بالترجيح، ومنها:
أ- في كلامه عن قراءة "أقتلت نفساً زكيّة" ([310]) حيث أورد رواية البخاري: (وكان ابن عباس يقرؤها "زكية") ثم قال: (وهي قراءة الأكثر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو "زاكية"، والأُولى أبلغ لأن فعيلة من صيغ المبالغة) ([311]) أهـ.
ب- ذكر في قراءة "وقال لأوتيّن مالاً وولداً" ([312]) نقلاً عن الطبري فيه ترجيح لقراءة الجمهور، ولم يعلق عليه، فقال: (قراءة الأكثر بفتحتين، والكوفيين سوى عاصم بضم ثم سكون، قال الطبري: لعلهم أرادوا التفرقة بين الواحد والجمع، لكن قراءة الفتح أشمل وهي أعجب إليّ) ([313]) أهـ.
جـ- بعد أن ذكر قراءة "ما ننسخ من آية أو نُنْسها" ([314]) بضم النون وكسر السين بغير همز، ثم قراءة (نَنْسأَها) بفتح النون و السين مع الهمز، قال: (والأول قراءة الأكثر واختارها أبو عبيدة وعليه أكثر المفسرين، والثانية قراءة ابن كثير وأبي عمرو وطائفة) أهـ.
ثم أثناء شرحه للحديث الذي وردت فيه ([315]) أورد أثراً عن ابن عباس قال: (خطبنا عمر فقال: إن الله يقول " ما ننسخ من آية أو نَنْسأَها " أي نؤخرها). ثم قال الحافظ: (وهذا يرجح رواية من قرأ بفتح أوله وبالهمز، وأما قراءة من قرأ بضم أوله فمن النسيان) ([316]) أهـ.
قلت: ما ذكره الحافظ من ترجيح أو ما يشعر به لقراءة مقبولة على مثلها، لا يُوافق عليه، إذ قرر أهل العلم: (إذا ثبتت القراءتان لم ترجَّح إحداهما- في التوجيه- ترجيحاً يكاد يسقط الأخرى، وإذا اختلف الإعرابان لم يفضَّل إعراب على إعراب. كما لا يقال بأنّ إحدى القراءتين أجود من الأخرى). ([317])
وقد نبّه على ذلك العلماء حيث نقل السيوطي هذا المعنى عن عدد منهم فقال: (قال الكواشي: ... ، إلاّ أنّه ينبغي التنبيه على شيء وهو أنّه قد تُرجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاٌ يكاد يسقطها وهذا غير مرضي، لأنّ كلاً منهما متواتر.
وعن ثعلب أنّه قال: إذا اختلف الإعرابان في القرآن لم أفضّل إعراباً على إعراب.
¥