[يجب التوقف في المجمل حتى يرد البيان]، ومحل الإجمال: إرادة كون إطالة الصلاة قبل الجمعة من فعله، فلا يمنع ذلك من الاستدلال بالحديث على شرعية صلاة الركعتين بعد الجمعة، إذ القاعدة في الأصول: [أنه إذا احتمل اللفظ معنيين فأكثر على جهة السواء وكان بين هذه المعاني قدر مشترك وجب حمل اللفظ عليه]،
قال السيوطي -رحمه الله- في الكوكب الساطع:
واللفظ تارة لمعنى يرد * وتارة لآخرين يقصد
على الأصح مجمل فإن يفي * ذا منهما يعمل به ويوقف.
وقوى بعضهم احتمال عود الإشارة إلى الركعتين بعد الجمعة فقط بأمرين اثنين:
1 - ما جاء عند مسلم في الصحيح من رواية الليث، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف، فسجد سجدتين في بيته، ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك.
"انظر الفتح لابن حجر-رحمه الله-".
ونوقش: بأنه ليس في الحديث نفي إرادة كون إطالة الصلاة قبل الجمعة من فعله، بل فيه أن الركعتين بعد الجمعة مرادة بالإشارة في قوله يفعل ذلك، وهذا خارج محل البحث.
2 - أنه-صلى الله عليه وسلم- لم ينقل عنه فعل ذلك، لأنه كان يخرج إلى صلاة الجمعة فيؤذن بين يديه ثم يخطب مباشرة، فكيف يتسنى له أن يطيل الصلاة قبل الجمعة؟.
"انظر طرح التثريب للعراقي-رحمه الله-".
ونوقش: بأن القاعدة في الأصول: [أن عدم العلم بالشيء ليس علما بالعدم].
الثاني: أننا لو سلمنا جدلا أن النبي-صلى الله عليه وسلم-كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، فيحتمل أن تكون نافلة مطلقة قبل الزوال في حال انتظاره للصلاة، ويحتمل أن تكون سنة راتبة للجمعة بعد دخول الوقت، والقاعدة في الأصول: [أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال]،
قال الحافظ العراقي-رحمه الله-في طرح التثريب:" لا يلزم من إطالته الصلاة قبل الجمعة أن يكون ذلك سنة للجمعة بل قد يكون قبل الزوال في انتظاره للصلاة".
وإذا تقرر ذلك فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث.
5 - ما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين ...
وجه الاستدلال بالحديث: أن الجمعة ظهر مقصورة، فيصدق عليها حقيقة الظهر، ويثبت لها ما يثبت للظهر التامة، ومن ذلك السنة القبلية الثابتة بحديث ابن عمر-رضي الله عنهما-هذا.
وأجيب: بأن الاستدلال به لا يتم لوجهين اثنين:
أ- أن الجمعة صلاةٌ مستقِلة بنفسها تُخالف الظهر في أشياء منها: الجهر، والخطبة، والشروط المعتبرة لها، وبناء على ذلك فحقيقة الظهر لا تصدق عليها، وحمل لفظ صلاة الظهر عليها ضرب من صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل (التأويل الفاسد)، والقاعدة في الأصول: [يجب حمل الألفاظ على الظاهر، ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل].
ب- أننا لو سلمنا جدلا أن الجمعة ظهر مقصورة، فإن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصلي الراتبة القبلية في الظهر المقصورة، كما هو الحال في السفر.
قال الإمام ابن تيمية-رحمه الله- في مجموع الفتاوى:"الوجه الثاني: أن يقال: هب أنها ظهر مقصورة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي في سفره سنة الظهر المقصورة، لا قبلها ولا بعدها، وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعا، فإذا كانت سنته التي فعلها في الظهر المقصورة خلاف التامة، كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم".
وإذا تقرر ذلك فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث.
6 - ما أخرجه عبد الرزاق-رحمه الله- في المصنف بسند صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "كان عبد الله-يعني ابن مسعود- يأمرنا أن نصلي قبل الجمعة أربعا، وبعدها أربعا".
وجه الاستدلال بالأثر: أن ابن مسعود-رضي الله عنه- كان يأمر بصلاة أربع ركعات قبل الجمعة (السنة الراتبة القبلية)، وهذا يدل على استحبابها، والقاعدة في الأصول: [أن مذهب الصحابي حجة في إثبات الأحكام الشرعية].
وأجيب: بأن الاستدلال به لا يتم لأربعة أوجه:
أ- أن القاعدة في الأصول: [أن مذهب الصحابي ليس بحجة في إثبات الأحكام الشرعية]، وتثبيت هذه القاعدة محله الأصول.
ب- أن مذهب ابن مسعود-رضي الله عنه-عارضه مذهب صحابي أخر، وهو ابن عباس-رضي الله عنهما-، فقد جاء عند الإمام ابن المنذر-رحمه الله- عن عكرمة، عن ابن عباس: " أنه كان يصلي قبل أن يأتي الجمعة ثمان ركعات، ثم يجلس، فلا يصلي شيئا، حتى ينصرف "،
¥