د. موراني: قضيتُ ثلاثةً وأربعين عاماً في هذه الدراسات، منها عشرة أعوام طالباً في الجامعات، ولم أنقطع عن الدراسة إلا عامين فقط. وقد كانت بداية الدراسة صعبةً؛ إذ كانت هذه الحضارةُ غريبةً عليَّ، كما كانت المعايير الدينية غريبةً أيضاً، إلى جانب صعوبة دراسة اللغة. وقد تغيرت الأحوال عند لقائي الأول والمباشر بهذه الحضارة، وبهذا المجتمع الآخر أثناء إقامتي الأولى في مصر.
لم أبحث عن العلم والدرس في كلية الآداب في جامعة القاهرة، بل أردت أن أقترب من هذا المجتمع اقتراباً مباشراً؛ لكي أفهم طريقة تفكير الناس ولكي أفكر كما يفكرون. لم أحضر المحاضرات في الكلية إلا من حينٍ إلى آخر، وقضيتُ أغلبَ أوقاتي في جوار الأزهر مع تجار خان الخليلي، وقضيت معهم الأيام من الصباح حتى ما بعد العصر. وكانت لهذه اللقاءات المتواصلة ثمراتها من ناحيتين:
أولا: فهمتُ لهجة الناس، وأصبحتُ ملازماً لهم في الحديث اليومي.
ثانياً: تعرفت على وفاء هؤلاء الذين صحبتهم في القاهرة، حيث جئت زائراً لهم بعد اثني عشر عاماً، وعندما دخلت السكة في الحارة التي كنت أتجول فيها يومياً قام التاجر الفلاني من كرسيه، وقام الآخر، والثالث ورحبوا بي، وسلَّموا عليَّ باسمي وهو بلا شك غريب عليهم لأنه اسم (خَواجة)، و سلُّموا عليَّ كأَنني فارقتُهم بالأمس. فهنا أخاطبكم جَميعاً: مَنْ يبحث عن هذا الكرمِ وهذا الوفاءِ في المجتمع الغربي فإنه يبحث عنه بلا جدوى!
هكذا كان اللقاء الجديد ليس مع التجار فحسب بل ببعض طلبة الأزهر أيضاً الذين التقيت بهم في مناسباتٍ عديدة، حتى أصبحتُ ضيفاً دائماً أيام الجمعة لحضور الخطبة في رحاب الأزهر الشريف حيث سَمحَ لي الخطيبُ حينذاك أَنْ أستمع إلى الخطبةِ، وأنا أنتظره في مكتبه أثناءَ الصلاة.
وهناك تعرفتُ على فئاتٍ أخرى من الناس لم أستطع أن أعرفهم في كلية الآداب في الجامعة. وهنا لم يجر الحديثُ حول التأريخ كما جرى في الكلية، بل حول الحديث النبوي وفهمه أولاً، وبعد ذلك عن التفسير وعلومه.
وأصبح من الضروري أن أدخل المكتبة الأزهرية لكي أطلب مخطوطاً في قاعة محمد عبده لقراءته أو للنظر فيه لأول مرة في حياتي عام 1968م،كانت هذه الخطوات الأولى اقتراباً من هذهِ الحضارةِ، وهذا المجتمع المُسْلِم , وهي تجاربُ لا تُدَرَّسُ في الكليات.
أَمَّا الشِّعْرُ فلم يكن لي اهتمامٌ به، غير أنَّ أستاذي في جامعةِ بون كان متخصصاً في الشعر الأندلسي، وقد عَذَّبنا به، وبتراجم الشعراءِ، وقرأنا عليه الشعر بغير رغبة فيه. وهكذا الأمرُ في الشعر بصورةٍ عامةٍ لا أجدُ ميلاً وتسليةً في قراءته حتى الشعر الكلاسيكي الأوروبي.
وأما ما أوصي أنا طالب العلم المسلم فإِنَّني أُذكِّرُ كُلَّ ذي عِلْمٍ بالحرص على حفظ كتب التراث في الدراسات القرآنية خاصةً والتراثية عامة، وهي كنوزٌ ونوادر لم تر نورَ الشمس إلى الآن، بل ما تزال مُختبئةً على رفوف المكتبات. وهي في حاجة إلى طلابٍ نبهاء يتصدون لتحقيقها، وإخراجها للناس، وفي هذا وفاء لمؤلفيها الذين بذلوا في تأليفها وقتاً وجهداً كبيراً. فشُدّوا الرِّحالَ إلى هذه الأماكنِ قَدْرَ الاستطاعةِ، وابذلوا في ذلك ما يستحقه من التعب والمال، فكأَنَّهُ صار فرضاً عليكم ولن يقوم به أحدٌ نيابةً عنكم، ومَنْ يَرَ تلكَ النوادرَ والكنوز المخبئة يفهمُ حقيقةَ المثل القائل: في الزوايا خبايا.
شبكة التفسير: ما رأيك بملتقى أهل التفسير؟ وما مدى استفادتك منه؟ وما أبرز الملاحظات المنهجية على الموضوعات المطروحة فيه بصفةٍ أكاديمية؟
د. موراني: لا يخفى على أحد أنَّ هناك كثير من الملتقيات والمنتديات في الشبكة العنكبوتية بِمختلفِ أنواعها، إِلا أَنَّ الملتقيات العلمية تحتل مرتبةً خاصة بينها، ويا حبذا لو كان لدينا على المستوى الجامعي الأكاديمي ميدان مثلَ هذا الملتقى العلمي لتقديم الدراسات ولتبادل الآراء بين الأعضاء والضيوف كما هي الحال في ملتقى أهل التفسير.
¥