اعلموا عباد اللّه، رحمكم اللّه، أن أحق ما صرفت الى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان للّه في العلم به رضا، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وأن أجمع ذلك لباغيه، كتاب اللّه الذي لاريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذخر وسنى الأجر تاليه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
و نحن في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه، منشئون - إن شاء اللّه ذلك - كتاباً، مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعاً، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافياً، ومخبرون في كل ذلك، بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه الأمة، واختلافها فيما اختلفت فيه منه، ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه، واللّه نسأل عونه وتوفيقه، إما يقرّب من محابه، ويبعد من مساخطه، وصلى اللّه على صفوته من خلقه، وعلى آله، وسلم تسليماً كثيراً.
و إن أول ما نبدأ به من القيل في ذلك، الإنابة عن الأسباب التي البداية بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحرى، وذلك البيان عما في آى القرآن من المعاني، التي مِنْ قِبَلِها يدخل اللبسُ على من لم يعان رياضة العلوم العربية، ولم تستحكم معرفته، بتصاريف
وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية.) انتهى كلامه رحمه الله.
ومما سبق نعلم أن المصنف يرى أن كتابه هذا يتميز بالتالي:
أولاً - أنه مستوعب لما يحتاج الناس إليه من علم تفسير القرآن.
ثانياً - أنه يكفي عن غيره من الكتب.
ثالثاً - أنه يذكر فيه ما انتهى إليه من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه الأمة.
رابعاً - أنه يذكر فيه الخلاف الذي وقع فيه من سبقه من الأئمة، مع بيان علل كل مذهب من مذاهبهم، وذكر الصحيح من أقوالهم لديه، مع مراعاة الاختصار في ذلك ما أمكن.
وهنا استفسار اطرحه للإخوة الكرام حول قوله رحمه الله: (وتأويل آيه، وتفسير مشكله)، وهو: هل يمكن أن يؤخذ من قوله هذا أن التأويل أعم من التفسير، فالتأويل يكون لكل آي القرآن، وأما التفسير فيكون لما أشكل من الآيات؟ فإذا ذكر التأويل مع التفسير فلكل منهما معنى يخصه، وإذا تفرقا كانا بعنى واحد؟
ـ[أبومجاهدالعبيدي]ــــــــ[03 May 2003, 11:48 ص]ـ
بعد مقدمة ابن جرير السابقة قال رحمه الله: (وأولُ ما نبدأ به من القِيل في ذلك: الإبانةُ عن الأسباب التي البدايةُ بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحْرى. وذلك: البيانُ عما في آي القرآن من المعاني التي من قِبَلها يدخل اللَّبْس على من لم يعان رياضةَ العلوم العربية، ولم تستحكم معرفتُه بتصاريف وجوه منطق الألسُن السليقية الطبيعية.)
فهو يرى أن هناك مقدمات لا بد من الإيتداء بها لأنها كالأسباب الموصلة إلى المقصود، ويفهم من كلامه السابق أن هذه المقدمات متعلقة بالأمور التي يمكن أن يدخل اللبس في فهمها على من لم يكن من أهل العلوم العربية الممارسين لها، ومن ثم يحصل الخطأ والزلل عند تفسير كلام الله لمن لم يتقن هذه المعاني.
ثم بدأ بذكر هذه المقدمات، فذكر كل مقدمة على هيئة مبحث أو فصل، ولنبدأ مع أول هذه المقدمات:
قال رحمه الله:
(القولُ في البيانِ عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطِق مَنْ نزل بلسانه القرآن من وَجْه البيان -والدّلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة- مع الإبانةِ عن فضْل المعنَى الذي به بَايَن القرآنُ سائرَ الكلام)
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، رحمه الله:
إن من أعظم نعم الله تعالى ذكره على عباده، وجسيم مِنَّته على خلقه، ما منحهم من فَضْل البيان الذي به عن ضمائر صُدورهم يُبينون، وبه على عزائم نفوسهم يَدُلّون، فذَلَّل به منهم الألسن وسهَّل به عليهم المستصعب. فبِهِ إياه يُوَحِّدون، وإيَّاه به يسَبِّحون ويقدِّسون، وإلى حاجاتهم به يتوصّلون، وبه بينهم يتَحاورُون، فيتعارفون ويتعاملون.
¥