[التعليق على أثر ابن عباس في تقسيم التفسير]
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[22 Jun 2003, 01:30 م]ـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإنه مما نُقِل في تقسيم التفسير ما رُوِيَ عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس (ت: 68)، قال:» التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله «(1).
تفصيل هذه الأوجه:
الوجه الأول: ما تعرفه العرب من كلامها: يشمل هذا القسم ألفاظ القرآن، وأساليبه في الخطاب، وذلك لأنه نزل بلغتهم وعلى طرائقهم في الكلام.
وهذه الألفاظ والأساليب معلومةٌ لديهم غير خافية، وإن كان قد يخفى على أفراد منهم شيء منها، وذلك لغرابتها على مسمعه، أو لعدم اعتياده عليها في لغة قومه، كما خفي على ابن عباس بعض معاني مفرداته؛ كلفظ فاطر، فقد روى الطبري (ت: 310) عن مجاهد (ت: 104)، قال:» سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض؛ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: لصاحبه: أنا فطرتها؛ يقول: أنا ابتدأتها «(2).
والأساليب لما كانت على سنَنِهم في الكلام (3) لم يَخْفَ عليهم المراد بها، فيعلمون من قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان:49) أن هذا الخطاب خطاب امتهان وتهكم، وإن كانت ألفاظه مما يستعمل في المدح، وذلك لأن السياق يدل على معنى الامتهان.
وقد ورد عنهم في تفسير قوله تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (هود:87) أن قولهم له: (إنك لأنت الحليم الرشيد (أنه من باب الاستهزاء (4)، قال ابن عباس (ت: 68):» يقولون: إنك لست بحليم ولا رشيد «(5).
ومعرفة هذه الأساليب وإدراكها لم يكن منهم بجُهدٍ ولا تكلُّفٍ؛ إذ هي من صميم لغتهم التي يتحدثون بها، وإن لم ينصُّوا على كلِّ ما فيها من استعمالات (6).
وإنما ظهر لهذه الأساليب الفنُّ المدوَّنُ بعدُ باسم علم البلاغة لما احتاج المتأخرون إلى الوصول إلى تعلُّمِ طرائق العرب وتفننها في أساليب خطابها.
وقد يرد هنا سؤال، وهو لم لم يتكلَّم السلف في هذه الأساليب كما تكلموا في بيان مفرداته ومعانيه (7)؟
والجواب ـ والله أعلم ـ: له أكثر من وجه:
الأول: أنَّه لم تقم دواعي ذلك وأسبابه التي إنما ظهرت لما برز الحديث عن إعجاز القرآن، والمجادلة في ذلك، وإقامة الحجة على علُّوه وفصاحته أمام فئام من الزنادقة الذين طعنوا فيه من هذه الجهة.
الثاني: أنَّ المفردات لا يتمُّ فهم الخطاب بدون معرفتها، بخلافه كثير من الأساليب التي من جهِلها فإنه لا يخفى عليه المعنى.
الثالث: أنَّ الكثرة الكاثرة من علوم السلف إنما هي فيما يكون له ثمرة عملية لا نظرية فقط، وذلك ما لا يوجد في الكلام عن هذه الأساليب التي يغلب عليها الجانب النظري (8).
والوارد عنهم في بيان الأساليب أقل من الوارد عنهم في بيان الألفاظ، ويظهر أنهم لم يبينوها لعدم الحاجة إليها كما هو الحال في بيان الألفاظ التي لا يُفهم الكلام بدونها.
والأصل في هذا الوجه أنه من فروض الكفاية، إذ لا يجب على كل مسلم معرفة جميع المعاني اللغوية والأساليب الكلامية الواردة في القرآن، ولهذا قد يخفى على بعض الأكابر من الصحابة ـ فضلاً عن غيرهم ـ شيءٌ مما يرتبط بلغته، ومن ذلك ما رواه الطبري (ت: 310) بسنده أنس بن مالك، قال:»: قرأ عمر: (عبس وتولى) (عبس: 1) حتى أتى على هذه الآية: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) (عبس:31)
، قال: قد علِمنا ما الفاكهة، فما الأبُّ؟ ثمَّ أحسبه ـ شك الطبري ـ قال: إن هذا لهو التكلف «(9).
ويظهر أنه إنما خَفِيَ عليه لأنَّ هذا اللفظ مما لم يُستخدم في لهجة قريش، والله أعلم.
¥