وهذا القدر يدخل في النطاق البشري، ولا يوجد ما يمنع وقوعه من النبي سوى الرأي بأنه مما يُخلُّ بالمروءة، وقد يكون هذا الأمر مما يجوز في شريعتهم، فالشرائع تختلف.
وداود عليه السلام لم يقتله، ولا أمر بذلك، وإنما كان هو في الغزو، والغزاة إنما يذهبون للجهاد، وهم متيقنون بالموت.
والموت في سبيل الله شرف يطلبه كل مسلم، فقدَّمه لذلك الشرف حرصًا منه على هذه المرأة، فكان في ذلك الخطأ، والله أعلم.
ولقد كان داود غنيًا عن مثلها، لكن الله ابتلاه، ولله أن يبتلي عباده بما شاء، فأي مانع من أن تكون البلوى على هذه الصورة؟
هذا، والله أعلم بما كان. ولو كان، فهل يلزم أن تكون هذه القصة هي المرادة من هذه الآيات.
خذ الآيات على ظاهرها، وفسِّرها بهذا الظاهر، دون أن يكون في ذهنك مثل هذه القصة، ماذا سيكون التفسير؟
يقول الله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) ص: 21؛ أي: هل جاءك خبر من بني إسرائيل حين قفزوا إلى بيت داود، ودخلوا عليه، وهو في مكان عبادته.
ولو كانوا ملائكة لما احتاجوا أن يقفزوا، فكان في قوله تعالى: (تسوروا المحراب) إشارة واضحة أنهم من البشر، كما أنَّ في الإخبار عنهم أنهم خصمة إشارة إلى وقوع أمر يتخاصمون عليه، وهو شأن هذه الغنم، وأنهم لم يكن لهم بدُّ من فعل ذلك الأمر المشين، وهو تسور المحراب على داود، وليس ذلك الخُلقُ بغريب على قَتَلَتِ الأنبياء.
فالموضوع في نظرهم لا يستحق بلغ درجة لا يُحتمل معها الانتظار، ففعلوا ما فعلوا، ولم يراعوا حرمة بيت داود، ولا وقته الذي لم يكن فيه مستعدًّا لتلقي الخصوم.
ولا زال حال بعض الناس اليوم على هذا، فتراه يتصل على المفتي في أي ساعة من ليل أو نهار يطلب الفتوى، وليس في نظره همُّ ولا شغل غيرها، وهو غير مراع لآداب الوقت، والمناسب منه في طلب الفتوى.
قوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) ص: 22.
لقد كان من الطبعي أن يخاف داود عليه السلام هؤلاء الداخلين عليه محرابه في ساعة لا يستقبل فيها أحدًا، لكنهما بادراه بما يريدان، وهو ما شغلهم، وجعلهم يأتونه في هذا الوقت الغريب، وأعلماه بأنهما متخاصمان، وطلبا منه على سجية بني إسرائيل المتعنتة أن يحكم بينهم بالحق ولا يميل مع أحدهما على الآخر، وأنَّى لنبي الله داود عليه السلام الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب أن يَحيف على المتخاصمين، لكنها هِنَةٌ من أخلاق بني إسرائيل الذين قالوا لموسى، وهو يأمرهم أن يذبحوا البقرة: (أتتخذنا هزوا) البقرة: 67، وأنَّى لنبي الله موسى أن يهزأ.
قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) ص: 23
هذه هي الخصومة، خصومة بين صاحبي نعاج، وهي نعاج حقيقة، فمجتمع داود عليه السلام مجتمع رعوي زراعي، يدل على ذلك تلك الخصومة التي ذكره الله سبحانه في سورة الأنبياء بين أصحاب الغنم وأصحاب الحرث، قال تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) الأنبياء: 78
وهذه المشكلة حصلت بين أصحاب الماشية، ولتصور الحدث أحكي لك واقع الحدث تخيُّلاً لا تحقيقًا؛ لتقريب تلك الصورة التي وقعت:
هذان جاران، أحدهما يملك تسعة وتسعين نعجة، والآخر يملك نعجة واحدة، ومن عادة أهل القرى أن تسرح ماشيتهم مع الراعي حتى المساء، فإذا عادت في المساء دخلت تلك النعجة المنفردة مع نعاج صاحبه الكثيرة.
ثمَّ يأتي صاحب النعجة ليخرج نعجته من بين نعاج صاحبه، فتخيل ماذا يحدث من إزعاج صاحب النعاج كل ليلة حينما يدخل صاحب النعجة ليخرج نعجته من بين تلك النعاج.
لما كان الحال كذلك، قال له صاحب النعاج: أكفلنيها؛ أي: اجعلها في كفالتي، تبقى مع نعاجي، وتأكل وتشرب، دون أن تزعجني كل ليلة وتزعج نعاجي.
¥