وبعد أن صرفت في الكشف عن حقائقه شطراً من عمري، ووقفت على الفحص عن دقائقه قدراً من دهري، أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر، قبل أن تبلى السرائر، وتفنى العناصر، وأكون بخدمته موسوماً، وفي حملته منظوماً .. فشحذت كليل العزم، وأيقظت نائم الهم ... واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده، وتفسير مقاصده، في كتاب اسمه بعون الجليل: (محاسن التأويل). أودعه ما صفا من التحقيقات، وأوشحه بمباحث هي المهمات، وأوضح فيه خزائن الأسرار، وأنقد فيه نتائج الأفكار، وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف الغابر، وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر، وزوائد استنبطتها بفكري القاصر، مما قادني الدليل إليه، وقوى اعتمادي عليه.
وسيحمد السابح في لججه، والسانح في حججه، ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان، وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان، وبدائعه الباهرة للأذهان ... فإنها لب اللباب، ومهتدى أولي الألباب! ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات ... ولا يخفى أن من القضايا المسلمة، والمقدمات الضرورية، أنه مهما تأنق الخبير في تحرير دقائقه السنية، فما هو إلا كالشرح لشذرة من معانيه الظاهرة، وكالكشف للمعة يسيرة من أنواره الباهرة، إذ لا قدرة لأحد على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب، وما تضمنه من لب اللباب، لأنه منطو على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة، لا يكشفها بالتحقيق إلا من اجتباه مولاه، ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقي عن خيرته ومصطفاه.
وكان شروعي في هذه النية الحميدة، بعد استخارته تعالى أياماً عديدة، في العشر الأول من شوال في الحول السادس عشر بعد الثلاثمئة وألف).
والقاسمي رحمه الله كثيراً ما ينقل نقولاً طويلة عن علماء السلف كالإمام أحمد بن حنبل وابن جرير الطبري وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والعز بن عبدالسلام والشاطبي وابن حزم والقرطبي وغيرهم. والحق أن النقول في كتابه قد زادت زيادة كانت مصدر العجب، بحيث لو طار كل نص إلى أصله ما يكاد يبقى شيء للقاسمي غير تعليقات ضئيلة، ولكن الزمن الذي ظهر فيه الكتاب أول مرة كان في حاجة إلى تلك النقول، لتعذر مصادرها على الكثير، وبدراسة أمثال هذه النقول الشافية نجد أنها لم تسق جزافاً، وإنما خضعت لفحص وتأمل واستيعاب، ثم ترجيح واختيار، فالقارئ المتعجل يظن المفسر قد نقل ما أمامه دون جهد كبير، وهذا عمل قل من يحسنه كالقاسمي رحمه الله.
ثم إن الكتاب قد ألف في أوائل القرن الماضي، أيام كانت هذه البحوث جديدة طريفة يتقبلها القارئ باشتياق، ولكن مُضيَّ قرنٍ عليها، أتاح لطلاب الدراسات العليا في كليات الشريعة وأصول الدين أن يبدعو الرسائل العلمية الشافية، وأن يبرزوا في هذا الحقل ما يروق القارئ المعاصر، ومحاولة المقارنة بينهم وبين صنيع القاسمي محاولة ظالمة، لأن الرجل رائد يسير الخطوات الأولى في طريق غير ممهد، وقد مضت عقود متوالية في مضمار البحث القرآني حتى اعتدل السير، واستقام الطريق، وهنا يحفظ للرائد مكان الريادة، ولا نطالبه بما نطالب به اللاحق من ابتكار وتجويد. وهو يحرص على أن يستشهد بالصحيح والحسن من الأحاديث في تفسيره. وفي اللغة يرجع إلى كتب اللغة كالقاموس والصحاح وغيرهما.
منهجه في مسائل الاعتقاد
كان القاسمي رحمه الله سلفي المنهج على منهج أهل السنة والجماعة، فهو من أتباع شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة السلف من قبل هؤلاء ومن بعدهم. وقد تعرض لمضايقات كثيرة بسبب هذا المنهج فاتهم بالوهابية – نسبة خاطئة إلى الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله – وحقق معه، واتهم بتسفيه آراء الأئمة المتقدمين من أصحاب المذاهب، ثم خرج بعد ذلك من تلك المحن وهو أقوى ما يكون حجة، وأصلب عوداً. والقارئ في تفسيره يرى منهج السلف ظاهراً، فهو يكثر النقل عن علماء السلف، ويورد حججهم وأدلتهم، وردودهم على شبه الخصوم، مما يؤكد أن المؤلف رحمه الله كان يجعل همه كل همه الإصلاح ليس إلا، وإنما يورد هذه النصوص ليلجم بها الخصوم، فإنهم إن استطاعوا جدلاً رد أقواله، صعب عليهم إبطال أقوال علماء بهم يقتدون، وبعلمهم يعترفون فكانت حجتهم لهم غالبة.
وهو في أحيان كثيرة لا يزيد في تفسير الآية على نقل كلام السلف فيها، وانظر مثلاً لذلك تفسيره لقوله تعالى: (ثم استوى على العرش) فقد استغرق منه تفسير هذه الآية 47 صفحة أغلبها نقول عن السلف، وهو إنما يربط كلامهم بعضه ببعض.
وقد أكد في مقدمة تفسيره أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف، أورد فيه نقولاً لبعض العلماء في إثبات ذلك.
خلاصة الجواب للأخ منتقى
تفسير محاسن التأويل للقاسمي من أنفس كتب التفسير، وقد أتى فيه بدرر ونفائس، ولكنه لا يصلح للقارئ المبتدي لأنه طويل النفس جداً، وأكثره نقول كما تقدم عن السابقين، ويحتاج في فهمه إلى صبر وأناة، والمبتدئ يفتقر في الغالب إلى تلك الصفات، وإنما يهمه في المرحلة الأولى فهم الغريب من الألفاظ والتراكيب وبعض المقدمات الضرورية، ولذلك فإنني أنصحك يا أخ منتقى أن تراجع ما كتبه الأخ أبو مجاهد وفقه الله في هذا الملتقى حول الكتب التي يحسن بطالب علم التفسير أن يبتدأ بها ويتدرج في فهمها حتى ينال حظاً وافراً من فهم القرآن الكريم، وتجد كلامه على هذا الرابط:
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?s=&threadid=26 ويمكننا النقاش حول هذا إن بدا لك سؤال، أو كان ثمة إشكال، وما أسعدنا بمشاركة الإخوة حول هذا الموضوع، فما كتبته لا يعدو كونه اجتهاداً. وفق الله الجميع للحق والسداد، والله أعلم
¥