هذا وقد حاول بعض العلماء التوفيق بين الرأيين ومنهم ابن عطية الذى قال: وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق وذلك أن الله تعالى قسم آى الكتاب قسمين: محكماً ومتشابهاً فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب ولا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شئ يلبس ويستوى فى علمه الراسخ وغيره. والمتشابه يتنوع، فمنه مالا يعلم البتة كأمر الروح وآماد المغيبات التى قد علم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه ما يحمل على وجوه فى اللغة ومناح فى كلام العرب فيتأول تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله تعالى فى عيسى (وروح منه) إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً. اهـ
وقال الشوكانى: ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به فى القرآن شيئان:
أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول أمره إليه … .. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة - تام - لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل … ..
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان فالوقف على (والراسخون فى العلم) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار.
وحاصل ذلك أننا لو نظرنا بإمعان إلى رأى الفريقين لأدركنا أن كل فريق قد أصاب الحقيقة من وجه وذلك بأن نحمل رأى المعارضين لمعرفة الراسخين فى العلم لتأويل المتشابه نحمله على نوع منه وهو الذى استأثر الله بعلمه، فهذا لا اطلاع لأحد عليه إلا الله كوقت الساعة وخروج الدابة ونزول المسيح ….الخ
ونحمل رأى المؤيدين على المتشابه الذى يعرف المراد منه بالبحث والنظر؛ فإن الراسخين فى العلم يعلمون تأويله حيث هم أهل البحث والنظر، وذلك مثل المتشابه الذى يرجع التشابه فيه إلى اللفظ المفرد من جهة غرابته أو اشتراكه أو ما يرجع التشابه فيه إلى تركيب الكلام ونحو ذلك.
2 - قال تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلاً. يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى وكان الشيطان للإنسان خذولاً)
وشاهدنا هو قوله سبحانه: (لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى) حيث وقف الجمهور عليه وقفاً تاماً؛ لأن كلام الظالم قد انتهى عند هذا الحد. ثم جاء بعد ذلك قوله سبحانه: (وكان الشيطان للإنسان خذولاً) تقريراً وبياناً لما قبله. والمراد بالظالم عقبة ابن أبى معيط كما سيأتى بيانه، وقال بعضهم: إن هذا القول (وكان الشيطان …….) الخ هو من تتمة كلام الظالم وعليه فالوقف على (خذولاً) وليس على (إذ جاءنى)، والمراد بالشيطان إما الخليل - وهو أمية بن خلف على ما سيأتى أو أبى بن خلف - وعلى ذلك فتسمية الخليل شيطاناً فلأنه قد أضله وزين له الكفر وعدم الإيمان فقلد الشيطان فى ذلك ونهج نهجه فى الصد والإضلال. وقد يراد بالشيطان هنا إبليس إذ هو الأصل فى الغواية والإضلال.
قال الشوكانى تعليقاً على قوله تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام الظالم، وأنه سمى خليله شيطاناً بعد أن جعله مضلاً، أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذى حمله على مخاللة المضلين. اهـ
.......
3 - جاء فى سورة النمل فى سياق حديث بلقيس مع قومها حين كانت تشاور فى أمر سليمان عليه السلام، أقول: فى هذا السياق جاء قوله تعالى: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)
قال الجمهور عن هذه الآية: إن الوقف على (أذلة) وقف تام. وقال غيرهم: بل الوقف على (وكذلك يفعلون) وليس على (أذلة)؛ فأما على رأى الجمهور فإن كلام بلقيس قد انتهى عند (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) ثم جاء هذا التذييل (وكذلك يفعلون) وهو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما ذهبت إليه بلقيس من أن الملوك إذا دخلوا قرية من القرى فاتحين لها أو غازين؛ فإنهم يخرجون أهلها، ويفرقون شملهم، ويتلفون ما فيها من خيرات. وعلى ذلك فهذا التذييل مستأنف وليس معطوفاً على ما قبله.
¥