وإنما قلنا: هذا القول أولى بالصواب؛ لأن الله عَمَّ بقوله: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} خطاب جميع عباده، فلم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض، فذلك على عمومه على ما عمَّه الله به.
وقد تنْزل الآية في معنًى ثم يكون داخلا في حكمها كل ما كان في معنى ما نزلت به «. تفسير الطبري، ط: الحلبي (24: 2).
ويدخل في هذا ما يحكونه من نزول بعض الآيات في عدد من الأشخاص، فإنه لا يلزم أن تكون نزلت فيهم، ولا أن تكون نزلت في أحدهم، والنظر ـ من جهة التفسير ـ في هذا الحال إلى صحة انطباق المذكورين على معنى الآية، ومن ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر}] الكوثر: 3 [.
فقد ورد أن الأبتر: العاص بن وائل، وقيل: عقبة بن أبي معيط.
وقد يكون أحدهما هو المعنيُّ بنُزول الآية، وقد يكونان معًا، وقد لا يكونان المعنيين قصدًا بنُزولها.
وفي جميع هذه الأحوال، فإنَّ هذان الشخصان ممن ينطبق عليهم وصف الشانئ للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم ممن أبغضه، فجعله الله منقطعًا عن كل خير، والله أعلم.
ولأجل هذا، فإن الآية تعمُّ كل من كان مبغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن أعدائه الأُوَلِ من قريش والعرب إلى يوم الدين.
قال الطبري (ت: 310):» وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله ـ تعالى ذكره ـ أخبر أن مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقل الأذل المنقطع عقبه، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه «. تفسير الطبري، ط: الحلبي (30: 330).
ملاحظة: في تحقيق السبب الذي نزلت الآية من أجله فائدة لا تدخل في مجال التفسير، بل في مجالات علمية أخرى، ولعلي أطرح هذه الفكرة في مقالة مستقلة، أذكر فيها متى تقع الحاجة إلى تحرير أسباب النُّزول، والله الموفق.
[ line]
المسألة الثالثة: أنه يكثر في تفسير السلف للعمومات التمثيل لها.
وهذا الأسلوب التفسيري عندهم يعتبر من أكثر تفسيراتهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) في رسالته في أصول التفسير، حيث قال في نوعي اختلاف التنوع:» ... وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير ـ تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه؛ كالتمثيلات ـ هما الغالب في تفسير سلف الأمة، الذي يُظنُّ أنه مختلف «. مقدمة في أصول التفسير، تحقيق عدنان زرزور (ص: 49).
وإذا كان التمثيل للعموم كثير في تفسير سلف الأمة فأين هو في مباحث العموم التي تُدرس في علوم القرآن؟!
إنَّ هذا الموضوع مما لا تكاد تجده في من بحث في العموم والخصوص؛ لأنَّ البحث فيه منتخب مما كُتِبَ في علم أصول الفقه، فغاب هذا المبحث المهم عن من كتب العموم والخصوص في علوم القرآن.
وفي هذا الموضوع بحثان مهمَّان:
الأول: كيف حُكِمَ على تفسيرات السلف للعموم بالتمثيلات أنها من قبيل المثال لا التخصيص؟
الثاني: إذا ثبت أنَّ تفسير السلف للعموم بالتمثيلات إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التخصيص، فهل يخالف ذلك قاعدة: الخبر على عمومه حتى يأتي ما يخصصه؟
أما الجواب عن الأول، فإن ذلك ظاهر بالاستقراء في تفاسيرهم، وبتنوع عبارة المفسر عن المعنى العام أحيانًا، فترد عنه عبارة على سبيل المثال، وترد عنه عبارة أخرى على سبيل المثال للعامِّ.
ومن أمثلة ما ورد من تنوع عبارة المفسر عن المعنى العام ما ورد عن ابن عباس (ت: 68) في تفسير قوله تعالى: {وشاهد ومشهود}] البروج: 3 [، فقد ورد عنه العبارات الآتية:
1 ـ من طريق عطية العوفي: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.
2 ـ من طريق يوسف المكي عنه: الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة، وقرأ: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود}.
3 ـ من طريق على بن أبي طلحة: الشاهد: الله، والمشهود: يوم القيامة.
4 ـ من طريق مجاهد: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة.
وإنما تنوعت العبارات عن ابن عباس (ت: 68) رضي الله عنهما؛ لأنه نحى إلى التمثيل لذلك الاسم العام، وهو الشاهد والمشهود، وإذا تأملت أقواله التفسيرية في الشاهد وجدتها مما ينطبق عليه وصف الشاهد وكذا أقواله في المشهود ينطبق عليها وصف المشهود.
¥