وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به، فالمفَسّر هو الذي عَمَدَ ـ اجتهاداً منه ـ إلى الربط بين آية وآية، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط، وعليه فإنه لا يلزم قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر.
فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من التابعين وغيرهم، وهكذا.
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحاً، فإنه يكون أبلغ التفاسير، ولذا: فإن ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من وروده عن غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَحَلّهُ القبول.
بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن، بل لأن المفسّر به هو النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:» مفاتح الغيب (26) خمسٌ، ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: 34] (26).
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر، والاجتهاد معرض للخطأ.
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلقاً، بحيث يجب قبوله ممن هو دون النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع التي يجب الأخذ بها في التفسير (27).
هذا .. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيراً:
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي، لا يعني صعوبة الوصول إليه في كل حالٍ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ـ ولا يكاد يختلف في تفسيرها اثنان، مثل تفسير» الطارق «في قوله (تعالى): ((وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ)) [الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله (تعالى): ((النَّجْمُ الثَّاقِبُ)) [الطارق: 3]، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) مقدمة في أصول التفسير، (ت: د. عدنان زرزور)، ص93 وما بعدها.
(2) انظر: البرهان في علوم القرآن، جـ2، ص156 - 164.
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في (أصول التفسير)، (ت: عدنان زرزور)، ص93.
(4) ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن)، (ت: طه شاهين)، ص116.
(5) رواه الإمام البخاري، انظر: فتح الباري (ط: الريان)، جـ6، ص448، ح3360.
(6) أضواء البيان، جـ1، ص87.
(7) التفسير والمفسرون، جـ1، ص42.
(8) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، للأمير الصنعاني، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني (رسالة ماجستير، على الآلة الكاتبة) ص71،72، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
(9) تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهها، وهذه الكتب تخص القراء.
الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة، وهذا المقصود هنا، ككتاب (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني وغيره.
(10) تفسير الطبري، جـ27، ص19، وانظر له في الجزء نفسه ص22، 37، 38، 61، 69، 74، 76، 92، 113، 120، وفي الجزء نفسه عن علي ص18، وابن عباس، ص55، 72، وعكرمة، ص72.
(11) يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة، وهي كالتالي:
1 - جمع مرويات السلف في (تفسير القرآن بالقرآن) ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك.
2 - دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
(12) انظر: تفسير الطبري، جـ15، ص6768، والتحرير والتنوير، جـ15، ص72.
(13) انظر: أضواء البيان، جـ1، ص107،108.
أضواء البيان جـ1 ص 343.
(14) انظر: أضواء البيان، جـ1، ص343.
(15) انظر: أضواء البيان، جـ1، ص86.
(16) انظر: تفسير الطبري، جـ5، ص93، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي، جـ1، ص246.
(17) انظر: ص4 من المجلة نفسها.
(18) انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، للرازي ص327، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني، ص282،283، وتيجان البيان في مشكلات القرآن، للخطيب العمري، ص173.
(19) انظر: أضواء البيان، جـ4، ص408.
(20) أضواء البيان، جـ2، ص189، وانظر: مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71،72.
(21) كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق، حيث قال المحقق: والصواب (كما).
(22) الصواب (فيها) انظر: حاشية 7، ص194، من التحقيق.
(23) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، ص194.
(24) المصدر السابق، ص188،189.
(25) وردت في قوله (تعالى): ((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)) [الأنعام: 59].
(26) رواه البخاري، انظر: فتح الباري، جـ8، ص141.
(27) سبق أن طرحتها في مجلة البيان، ع76، ص15.
¥