تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإن كان العناد والمنافرة بين طرفيها في العدم فقط ـ فهي مانعة الخلو المجوزة للجمع. وهي عكس التي ذكرنا قبلها تصوراً وإنتاجاً، ولا تتركب إلا من قضية وأعم من نقيضها. وضابطها ـ أن طرفيها لا يرتفعان لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم، ولا مانع من اجتماعهما لعدم المنافرة والعناد بينهما في الوجود. ومثالها: الجسم إما غير أبيض، وإما غير أسود، فإن هذا المثال قد يجتمع فيه الطرفان فلا مانع من وجود جسم موصوف بأنه غير أبيض وغير أسود، كالأحمر فإنه غير أبيض وغير أسود، ولكنه لا يمكن بحال وجود جسم خالٍ من طرفي هذه القضية التي مثلنا بها، فيكون خالياً من كونه غير أبيض وغير أسود. لأنك إذا نفيت غير أبيض أثبت أنه أبيض، لأن نفي النفي إثبات. وإذا أثبت أنه أبيض استحال ارتفاع الطرف الثاني الذي هو غير أسود. لأن الأبيض موصوف ضرورة بأنه غير أسود، وهكذا في الطرف الآخر. لأنك إذا نفيت غير أسود أثبت أنه أسود، وإذَا أثبت أنه أسود لزم ضرورة أنه غير أبيض، وهو عين الآخر من طرفي القضية المذكورة، وقياس هذه ينتج منه الضربان العقيمان في قياس التي قبلها، ويعقم منه الضربان المنتجان في قياس التي قبلها. فتبين أن استثناء نقيض كل واحد من الطرفين في قياس هذه الأخيرة ينتج عين الآخر، وأن استثناء عين الواحد منهما لا ينتج شيئاً.

فقولنا في المثال السابق: الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود لو قلت فيه لكنه أبيض أنتج، فهو غير أسود. ولو قلت: لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض، بخلاف ما لو قلت: لكنه غير أبيض فلا ينتج نفي الطرَف الآخر ولا وجوده، لأن غير الأبيض يجوز أن يكون أسود، ويجوز أن يكون غير أسود بل أحمر أو أصفر. وكذلك لو قلت: لكنه غير أسود لم يلزم منه نفي الطرف الآخر ولا إثباته، لأن غير الأسود يجوز أن يكون أبيض وغير أبيض لكونه أحمر مثلاً ـ هذه خلاصة موجزة عن هذا الدليل المذكور في نظر المنطقيين.

المسألة الخامسة

اعلم أن لهذا الدليل آثاراً تاريخية، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها.

فمن ذلك ـ أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ: أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول يخلق القرآن العظيم. وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأن في أيام المأمون، واستفحلت جداً في أيام المعتصم، واستمرت على ذلك في أيام الواثق. وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم.

ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفاً.

ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه «الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل» تغمده الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً من الضرب المبرح أيام المعتصم. وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم.

قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الكلام على ترجمة «أحمد بن أبي دَؤَاد»: أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزار، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي، حدثني محمد بن يوسف الشاشي، حدثني إبراهيم بن منبه قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه (يعني ابن أبي دؤاد) قال: فأدخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال له: لا سلم الله عليك? فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك? قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها. فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم. فقال له: كلمه. فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لم تنصفني (يعني ولي السؤال) فقال له: سل: فقال له الشيخ: ما تقول في القرآن؟ فقال مخلوق: فقال: هذا شيء عَلِمه النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون؟ أم شيء لم يعلَموه؟ فقال: شيء لم يعلموه. فقال: سبحان الله شيء لم يعلمه النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت?؟ قال: فخجل. فقال: أقلني والمسألة بحالها. قال نعم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير