وإذا كان يُبنى على اللغة عملٌ فقهيٌّ فإنَّ معرفة تلك القضية اللغوية مما يكون في مجال الواجب؛ لأنه لا يقوم الحكم الفقهي إلا بمعرفة معنى اللفظِ، ومن أشهر الأمثلة التي يُمثَّلُ بها ما ورد في تفسير لفظ القُرْءِ من قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة: من الآية228)، والخلاف الوارد في معنى القروء ـ هل هي الحيض أم الأطهار ـ لا يُخرِج معرفة هذا اللفظ عن الواجب؛ أي أنه لابدَّ من معرفة المراد بها لغة ليبنى عليها الحكم ن سواءً اختير معنى الطهر أو معنى الحيض.
الوجه الثاني: ما لا يعذر أحد بجهله:
وهذا يشمل الأمر بالفرائض، والنهي عنه المحارم، وأصول الأخلاق والعقائد.
فقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43)، وقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: من الآية97)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183) لا يعذر أحد بجهل مثل هذه الخطابات وهو يقرأ القرآن.
وكذا يدخل فيه ما جاء من أمر بالصدق والأمانة والنهي عن الكذب والخيانة، وعن إتيان الفواحش، وغير هذه من الأوامر والنواهي المتعلقة بالأخلاق.
ويدخل فيه ما يتعلق بالعقائد؛ كقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (محمد: من الآية19)، وقوله:) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25)، وغيرها من الأوامر والنواهي المتعلقة بالتوحيد. هذه كلها داخلة في الواجب الذي يجب على المسلم تعلمه من التفسير.
الوجه الثالث: ما تعلمه العلماء.
ومما يشمله هذا القسم، ما تشابه منه على عامة الناس، سواءً أكان في الأحكام أم في المعاني.
وهذا القسم من فروض الكفاية.
وهو كثير في القرآن؛ لأن كل من خفي عليه معنى فإنه من المتشابه عنده، فيحتاج إلى أن يبحث أو يسأل عن ما خفي عليه فهم معناه.
الوجه الرابع: ما لا يعمله إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب:
ويشمل هذا حقائق المغيبات، ووقت وقوعها.
فالدابة التي تخرج في آخر الزمان لا يعلم كيفها حقيقتها إلا الله، ولا يعلم وقت خروجها إلا الله. وهكذا سائر الغيبيات.
وهذا النوع غير واجب على أحد، بل من تجشم تفسيره فقد أثِمَ وافترى على الله، وادعى علمًا لا يعلمه إلا الله سبحانه (10).
……………………………… ..
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (1: 34)، وإيضاح الوقف والابتداء (1: 101).
وقد اعتمد الطبري (ت: 310) على هذا الأثر في ذكر الوجوه التي من قِبَلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن، قال:» ... ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله:
قال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " (النحل: 44) وقال أيضاً جل ذكره: "وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " (النحل: 64) وقال: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب،" (آل عمران: 7).
فقد تبين ببيان الله جل ذكره:
أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذلك تأويل جميع ما فيه: من وجوه أمره واجبه وندبه وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيه، التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته. وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه، إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأويله، بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها، دالة أمته على تأويله.
¥