وكان هذا المنهج واضحاً لهم تمام الوضوح كما هو واضح لمن اطلع على كلامهم وتأمل في أحكامهم، وكتبهم بين أيدينا، وهي شاهدة وناطقة بذلك، وهذا لا يعني رفع الاختلاف بينهم، بل الاختلاف واقع، ولكن مع اتحاد الأصول العامة التي يسيرون عليها، وإنما ينتج الاختلاف في التطبيقات الجزئية لاختلاف النظر وتفاوت العلم بينهم في ذلك. فقد يطلع أحدهم على ما لم يطلع عليه الآخر، وقد ينقدح في ذهن أحدهم مالم ينقدح في ذهن الآخر، وقد يشدد أحدهم ويتسمح الآخر، إلا أن ذلك لا يخرج عن الأصل العام الذي يسيرون عليه.
ثم ضعف علم السنة بعد ذلك، وتكلم فيه من لم يتقنه، وكثر ذلك، حتى ظهرت قواعد جديدة، وآراء غريبة في تمييز الصحيح من السقيم، وقد قام بتطبيق هذه القواعد جملة من الفقهاء والأصوليين وغيرهم، ثم تبناها بعض متأخري المحدثين، وجعلوها قواعد في علم السنة امتلأت بها كتب المصطلح. ولازال كثير ممن عنى بخدمة السنة يطبق هذه القواعد المتأخرة في التمييز بين الصحيح و السقيم إلى هذا العصر، ومن هنا انقسم الكلام في هذا العلم إلى قسمين وانتسبت إلى مدرستين، وصار على منهجين:
الأول: منهج المتقدمين من أئمة الحديث، كمن سبق ذكرهم ومن أهم ما يتميز به هذا المنهج ما يلي:
1 ــ القاعدة عندهم في النظر عند الاختلاف بين الرواة -كاختلاف في وصل وإرسال أو رفع ووقف أو زيادة ونقص ونحو ذلك - مبنية على التأمل الدقيق في أحوال الرواة المختلفين والتأمل التام في المتن المروي، فلا يحكمون للواصل مطلقاً سواء كان ثقة أو غير ثقة، ولا يحكمون للمرسل – أيضاً – مطلقاً، وكذا الزائد والناقص الخ .. وإنما يتأملون في ذلك فإن دلت القرائن على صواب المُرسِل حكموا به، وإن دلت على صواب الواصل حكموا به، وهكذا بقية الاختلاف، وهذا أمر ليس بالهين، بل يستدعي بحثاً دقيقاً، ونظراً متكاملاً، وتأملاً قوياً، في الموازنة بين ذلك، وإنما ساعدهم على هذا سعة حفظهم وقوة فهمهم وقربهم من عصر الرواية.
ولأجل هذا الأمر فإنهم لا يحكمون على إسنادٍ بمفرده إلا بعد أن يتبين أن هذا الإسناد سالم من العلل، كما قال ابن المديني "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه".
2 ــ ومن أهم ما تميز به عمل الأئمة المتقدمين التفتيش في حديث الراوي، وتمييز القوي منه وغير القوي، وذلك أن الراوي قد يكون ثقة، إلا أن في حديثه شيئاً في بعض الأحوال، أو الأوقات، أو عن بعض الشيوخ، أو نحو ذلك، فهم يهتمون بتمييز ذلك والتنبيه عليه، وبناءً عليه فقد يكون الحديث خطاءً وإن كان راويه ثقة، ولأجل هذا فإنهم قد جعلوا أصحاب الرواة المشاهير على طبقات متفاوتة بعضهم أتقن من بعض وهكذا.
3 ــ ومن القضايا المهمة في هذا أن الأئمة المتقدمين كانت لهم عناية خاصة بنقد المتون، والتنبيه على ما وقع فيها من خطأ ووهم، وهذا كثير في كلامهم.
فهذه جملة من القضايا والميزات المهمة التي تميز بها عمل الأئمة المتقدمين في نقد السنة وتمييز صحيحها من سقيمها، وليس القصد من ذلك الحصر، فإن هناك قضايا أخرى متعلقة بإثبات السماع وعدمه والاتصال والانقطاع، وأخرى في التدليس وغير ذلك.
المنهج الثاني: منهج المتأخرين أو منهج الفقهاء والأصوليين ومن تبعهم من متأخري المحدثين وقد تميز هذا المنهج بميزات أيضاً، ومن أهمها ما يلي:
1 ــ أهم ما يتميز به هذا المنهج أنهم قعدوا قواعد نظرية ثم طردوها، مع أنهم قد يختلفون في بعض هذه القواعد، فمن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة مطلقاً، دون تحرٍ في ذلك هل أصاب الثقة في هذه الزيادة أو أخطأ، فإذا اختلف في وصل حديث وإرساله أو وقفه ورفعه، وكان الواصل أو الرافع ثقة فقوله هو الصواب، ومنهم من يقول المرسل هو المصيب لأن هو المتيقن، فهذه قاعدة أخرى مقابلة للقاعدة السابقة، وكل هذا مجانب المنهج أئمة الحديث،ولهذا ذكر ابن رجب أن هذه الأقوال كلها لا تعرف عن أئمة الحديث المتقدمين. ويترتب على قاعدتهم في زيادة الثقة فروع كثيرة ليس المقصود حصرها.
¥