هل يقبل الاختلاف على إطلاقه، أم في الأمر تفصيل؟
أما قبول الاختلاف على إطلاقه، فلا يُتصوَّر القول به.
وأما إذا رجع الأمر إلى اختيار القول الأَولى أو الصحيح، فقد دخلت في التفسير بالرأي والاجتهاد؛ لأنك ترى أن هذا القول أولى من غيره.
وبهذا تكون قد خرجت عن التفسير بالمأثور على هذا الاصطلاح المذكور.
الثانية: افتراض وقوع الاختلاف بين المأثور والرأي:
جاء في كلام بعضهم فيه فرضيات عقلية لا تثبت أمام العمل التفسيري، ولم يُعملْ بها من قبل، ولا أُخِذَ بها من بعد.
وسأذكر لك من كلام من أصلَّ هذا التقسيم وانتشر من بعده ما يدلُّ على ما قلت لك.
عقد عبد العظيم الزرقاني (ت:) في كتابه مناهل العرفان مبحثًا بعنوان (التعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور وما يتبع في الترجيح بينهما)، وقال فيه:» ينبغي أن يعلم أن التفسير بالرأي المذموم ليس مرادا هنا لأنه ساقط من أول الأمر فلا يقوى على معارضة المأثور.
ثم ينبغي أن يعلم أن التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المحمود معناه: التنافي بينهما، بأن يدل أحدهما على إثبات والآخر على نفي؛ كأن كلا من المتنافيين وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه.
وأما إذا لم يكن هناك تناف، فلا تعارض، وإن تغايرا؛ كتفسيرهم الصراط المستقيم بالقرآن أو بالسنة أو بطريق العبودية أو طاعة الله ورسوله، فهذه المعاني غير متنافية وإن تغايرت ...
إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي؛ لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي؛ أي مستند إلى دليل قطعي: من عقل أو نقل، فإن كان قطعيا، فلا تعارض بين قطعيين، بل يؤول المأثور؛ ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله، جمعا بين الدليلين.
وإن لم يكن تأويله، حُمِلَ اللفظ الكريم على ما يقتضيه الرأي والاجتهاد، تقديما للأرجح على المرجوح.
أما إذا كان الرأي ظنيا، بأن خلا من الدليل القاطع، واستند إلى الأمارات والقرائن الظاهرة فقط، فإن المأثور القطعي يقدم على الرأي الظني ضرورة أن اليقين أقوى من الظن. هذا كله فيما إذا كان المأثور قطعيا، أما إذا كان المأثور غير قطعي في دلالته؛ لكونه ليس نصا، أو في متنه؛ لكونه خبر آحاد، ثم عارضه التفسير بالرأي فلا يخلو الحال: إما أن يكون ما حصل فيه التعارض مما لا مجال للرأي فيه، وحينئذ فالمعوَّل عليه المأثور فقط، ولا يقبل الرأي.
وإن كان للرأي فيه مجال، فإن أمكن الجمع فبها ونعمت، وإن لم يكن قدِّمَ المأثور عن النبي أو عن الصحابة؛ لأنهم شاهدوا الوحي، وبعيد عليهم أن يتكلموا في القرآن بمجرد الهوى والشهوة.
أما المأثورعن التابعين، فإذا كان منقولا عن أهل الكتاب، قدم التفسير بالرأي عليه. وأما إذا لم ينقل عنهم، رجعنا به إلى السمع، فما أيده السمع، حُمِلَ النظم الكريم عليه، فإن لم يترجح أحدهما بسمع ولا بغيره من المرجحات، فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد، بل نُنَزل اللفظ الكريم منْزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه «().
إنك في هذا النَّصِّ أمام فَرَضيات مبنية على أن التفسير بالمأثور ليس فيه رأي، وأنه يمكن أن يناقضه التفسير بالرأي، ويظهر لي أن ههنا معركة دائرة بين أشياء متوهَّمة؛ لذا لم يذكر الزرقاني أمثلة لهذه الفرضيات التي استنتجها، وقد جاء بمصطلحات لا تستخدم إلا عند المتكلمين ممن كتب في علم الكلام أو في علم الأصول، وذهب يعمل بطريقة السبر والتقسيم في المحتملات التي يمكن أن ترد في التعارض المزعوم بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي.
ولعلك تلحظ فيه روح أحد علماء الكلام الذين يقدمون العقل على النقل في قوله:» إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي؛ لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي؛ أي: مستند إلى دليل قطعي من عقل أو نقل، فإن كان قطعيا فلا تعارض بين قطعيين بل يؤول المأثور ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله جمعا بين الدليلين «.
وبهذا صار حظُّ التفسير بالمأثور أن يكون عرضةً للعقول تؤوِّله على ما تراه مناسبًا لها، وليس مقدَّمًا عليها.
¥