هذا، ولقد تتبَّعتُ مصطلحَ» مأثور «و» المأثور «، فلم أظفر على هذا التَّقسيمِ الرُّباعيِّ الذي ذكرهُ هؤلاءِ، بل يطلقُه العلماءُ على ما أثرَ عن الرسول ? أو عن السلفِ، أو الصحابةِ، أو عن التابعينَ ()، وأحسبُ أنَّ هذه القضيَّةَ ليست بحاجةٍ إلى نقلٍ لتدعيمِها؛ لكثرةِ ما تردُ في كتب اللغة، ومصطلح الحديث، وغيرها، فتجد المأثور في اللغةِ: ما نقله الخلف عن السلفِ، وقد يكون اصطلاحًا عند بعضهم على ما أُثِرَ عن الرسولِ ?، أو عن أصحابِه أو عن التَّابعينَ، وهو في كلِّ هذه الاصطلاحاتِ لم يخرج عن المعنى العامِّ للفظةِ.
وقد يُسمَّى المأثورُ عنهم بالتفسيرِ المنقولِ، ويقسمونَ التفسيرَ إلى نقليٍّ واجتهاديٍّ، ولكن لا يعنون أنَّ ما نُقِلَ عنهم لا يقعُ فيه اجتهادٌ، بل مرادهم اجتهادُ المفسِّر في أيِّ عصرٍ كان ().
أو يُسمَّى المنقولُ عنهم بالرِّوايةِ، والمأخوذُ من طريقِ الاجتهادِ بالدِّرايةِ ()، ولكن يجب أن تنتبه إلى أنَّ لهم في تفسيرِهم درايةٌ، ثمَّ صار لمن بعدهم روايةً.
وأيًّا ما اصطلحتَ على المنقولِ عن السَّلفِ، فإنه يجبُ أن تتنبَّه إلى ورودِ الاجتهادِ عنهم، وأنَّهم صاروا بعد ذلك مصدرًا لمن جاء بعدهم، يعتمدُ عليهم، ويتخيَّرُ من أقوالِهم، أو يضيفُ ما صحَّ من المعنى ولم يناقض أقوالَهم.
ويمكنُ تلخيصُ هذا الموضوعِ فيما يأتي:
1 ـ أنَّ إطلاقَ المأثور على المرويِّ عن الرسولِ ? والسَّلفِ من الصحابة والتَّابعين وأتباعهم إطلاقٌ صحيحٌ.
2 ـ أنَّ هذا المأثورَ عنهم هو أهمُّ المراجع التي يجبُ أن يرجعَ إليها المفسِّرون الذي جاءوا بعدهم.
3 ـ أنَّ الصَّحيحَ المرويَّ من تفسيرِ الرسولِ ? المباشرِ حجَّةٌ في تفسيرِ الآيةِ بلا خلافٍ.
4 ـ أنَّ جملةً من التفسيرِ المرويِّ عن السلفِ معتمدُه النَّقل، وهو كسائر المنقولاتِ من حيثُ اعتمادُ الصحيحِ منها، ويدخل في ذلك أسباب النُّزول وقصص الآي، وغيرها من المغيَّباتِ التي تفتقرُ إلى النَّقلِ.
وهذه المنقولات تردُ عن الصحابةِ وعن التابعين وأتباعهم ويختلفُ قبولها بين هذه الطبقاتِ، فالمرويُّ عن صحابيٍّ ليس كالمرويِّ عن تابعيٍّ، ولا عن تابع تابعيٍّ.
والمرويُّ عن جماعةٍ منهم، ليس كالمرويِّ عن فردٍ منهم، وهكذا غيرها من القرائن التي تحفُّ بقبولِ الأخبارِ.
5 ـ أنَّ جملةً من تفسير السَّلفِ تفسيرٌ بالرأي المحمودِ، ولهم في ذلك معتمدَاتٌ؛ كالقرآنِ واللغةِ، والعلمِ بأحوال من نزل فيهم الخطابُ، والعلمُ بأحوالِ المصطفى ?، وغيرها.
6 ـ أنَّ القرآن مصدرٌ مهمٌّ من مصادرِ التَّفسيرِ، ولا يُقبلُ التَّفسيرُ به لمجرَّدِ كونِه تفسيرَ قرآنٍ بقرآنٍ، بل لاعتبارٍ آخر؛ كأن يكونَ من تفسيرِ النَّبيِّ ?، أو مما لا يمكنُ الاختلافُ في كونه مفسَّرًا بقرآنٍ، أو مما يكونُ مجمعًا عليه، أو بالنَّظرِ إلى عُلُوِّ مرتبةِ مفسِّرِه، أو غيرها من القرائنِ التي تدلُّ على صحَّةِ التفسيرِ به.
وإذا كان التفسيرُ بالقرآن ممن هو دون النَّبيِّ ?، فهو من اجتهادِ المفسِّرِ به، لذا قد يختلفُ مفسرٌّ وغيرُه في حمل آيةٍ على آيةٍ، وإنما كان ذلك بسبب الاجتهادِ.
7 ـ أنَّ التَّعاملَ مع تفسيرِهم يختلفُ من مثالٍ إلى غيرِه، فقد يكونُ في موطنٍ لا يصحُّ أن يُتعدَّى ما قالوا، وفي بعضِ المواطنِ قد يجتهدُ المفسِّرُ ويختارُ من أقوالِهم ما يراه الأصوبَ، وقد يجوزُ له في موطن غيره أن يزيدَ على ما قالوا من المعاني الصحيحةِ التي تحتملها الآيةُ ولا تناقضُ ما قالوا.
ثالثًا: ما ترتب على مصطلح التفسير بالمأثور
لقد ترتَّبت نتائج على مصطلح التفسير بالماثور فيها خلل علمي، وسأذكر بعض هذه النتائج.
الأولى: الحكم عبى التفسير بالمأثور بأنه يجب الأخذ به.
قال مناع القطان:» التفسير بالمأثور هو الذي يجب الأخذ به؛ لأنه طريق المعرفة الصحيحة، وهو آمن سبيل للحفظ من الزلل والزيغ في كتاب الله «().
.وهذا كلام ينقصه التحرير، من جانبين:
الأول: أن أغلب تفسير القرآن بالقرآن من قبيل الاجتهاد، وهو يدخل في التفسير بالرأي، وقبوله إنما تكون من جهة أخرى لا من جهة كونه مأثورًا فقط، كما سبق بيانه.
الثاني: كيف يجب الأخذ بالتفسير الذي يقع فيه الاختلاف بين السلف؟
¥