ونزع ابن عباس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من العلوم، وهو من أوسع التفسيرات، وهو لا ينافي من فسّر الحكمة بالسنة؛ لأن بها يحصل بيانُ القرآن وفهمُه وفقهُه؛ فهي المفسّرة والمبيّنة للقرآن، وتعني - من بين ما تعنيه - الفقه والفهم، يدلّ على ذلك قوله - تعالى -: ((وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)) [ص: 20].
قال مجاهد: "يعني الفهم والعقل والفطنة" (18) ومن أعطاه الله ويسّر له فقه القرآن وعلومَه والعمل به فقد حاز فضلاً عظيماً وخيراً جزيلاً.
قال القرطبي: "إن من أُعْطِيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل مما أُعطي مَنْ جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها" (19).
فكتاب الله حكمة، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم حكمة، وأصل الحكمة ما يُمتنَع به من السفه، ومن ثَمَّ اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: ((ويعلمهم الكتاب والحكمة)) [البقرة: 129] وقد حث الله - عز وجل - على التدبر والاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ فقال: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)) [ص:29]، وقال: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) [محمد: 24]، وقال: ((ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)) [الزمر: 27] ففي مثل الآيات ونحوها دليل على وجوب معرفة معاني القرآن والاتعاظ بمواعظه وفقه ما فيه من الهداية والرشاد، ولا يقال لمن لا يفهم تفسيره: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا يقال ذلك إلا لمن كان بمعاني القرآن بصيراً وبكلام العرب عارفاً (20).
وأقول: وتدبر القرآن مرحلة تالية لمرحلة الفهم، ولا يمكن أن يتأتى التدبر لمن لم يفهم معاني القرآن.
قال القرطبي: "وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذّ؛ إذ لا يصحّ التدبر مع الهذّ" وقد شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه للقرآن فقال: ((وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)) [الفرقان: 30].
وهجر التفسير والفهم والتدبر نوع من أنواع هجره. قال ابن القيم وابن كثير: "ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه" (21).
قال ابن تيمية: "وأما في باب فهم القرآن فهو {أي: قارئ القرآن} دائم التفكر والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية قَبِلَهُ وإلا ردّه" (22).
ويشهد لما تقدم ما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري حيث قال: "والله ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلَّه ما يُرى له في خُلُقٍ ولا عملٍ" (23).
فكلام ابن كثير يدل على أن انصراف الطلاب إلى طلب العلم في غير القرآن نوع من أنواع هجره، وكلام شيخ الإسلام يدل على أن الواجب على الطلاب أن يستغنوا بمعاني القرآن وأحكامه عن غيره من كلام البشر، ويدل لهذا ما ذكر ابن أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: لو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاءاً لما تريدون، فقالوا: تعلمنا القرآن، فقال: إن في تعلُّمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم، قالوا: كيف يا أبا علي؟ قال: "لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه - تفسيره وبيانه - ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة" (24).
فهذا فضيل بن عياض اعتبر التفقه في غير القرآن شغلاً لا طائل من ورائه، ثم هو يصحّح لهؤلاء الطلاب التوجهات الصحيحة لطلب العلم في زمنه ويردهم إلى طلب التفقه في القرآن نفسه.
وهكذا كان بعض السلف يقدمون القرآن وعلومه وتفسيره على أي علم آخر؛ فقد وجد من يمنع طلب علم الحديث وكتابته قبل حفظ القرآن، وكانوا يختبرونهم في بعض معانيه؛ فهذا عبد الله بن المبارك يختبر من جاء يطلب الحديث عنده في القرآن وبعض علومه (25).
¥