والانس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان عليه السلام في طلبه وكان شيطانا مريدا فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط مع الرصاص قال فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم أناب يعني الشيطان الذي كان سلط عليه.
إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما ـ إن صح عنه ـ من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه [إن كذب اليهود على أنبياء الله أمر ظاهر لمن قرأ أسفارهم، وهم يتعمَّدون الحطَّ من مقام الأنبياء ليسلم لهم ما يرتكبونه من الذنوب، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن هذا مما لم يسلم منه الأنبياء فضلا عمن هو دونهم. ومن العجيب من أخبارهم أنهم يصفون داود بالملك دون النبي، وهم يتجاهلون وصفه بالنبوة عن قصد؛ إما لأن زمنه هو الزمن الذي عزَّ فيه اليهود، وصاروا ذوي شأن وبسطة، وإما لأن يجعلوا ما يصفونه به زورًا وبهتانًا محطًّا لهم في الاقتداء به متى شاءوا، أو تركه متى شاءوا؛ لأنه ليس بنبي.
هذا، ومفهوم النبوة وما يتعلق بها من الأوصاف التي كانوا يطلقونها على بعض الأنبياء ـ كالكاهن وغيره ـ مما يحتاج إلى بحث لمعرفة أثر هذا المفهوم على اعتقادهم وعملهم]
ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء، فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان، بل عصمهن الله عز وجل من تشريفا وتكريما لنبيه عليه السلام.
وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنه كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب «.تفسير ابن كثير ج: 4 ص: 36تفسير ابن كثير ج: 4 ص: 37
وقد أورد البخاري في ترجمة سليمان عليه السلام من أخبار الأنبياء في صحيحه تفسير الجسد بالشيطان، وأورد أيضًا الحديث الآتي:
حدثنا خالد بن مخلد حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة؛ تحمل كل امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله.
فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تَحْمِل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شقيه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله.
قال شعيب وابن أبي الزناد تسعين، وهو أصح «. صحيح البخاري ج: 3 ص: 1260
وقد حكى الثعلبي (ت: 427) أنَّ بعض المفسرين جعل هذا الحديث تفسيرًا للجسد في الآية. [الكشف والبيان (8: 206 ـ 207)]
تحليل التفسير:
إنَّ أمامك في هذه الآية عددًا من الروايات الإسرائيلية الواردة عن السلف، ومعها خبرٌ صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر هنا هو النظر في معنى الآية، والمراد بالفتنة التي فتنها سليمان عليه السلام، وليس النظر هنا إلى صحة الأخبار، وإنما إلى صحة حمل هذه الأخبار على فتنة سليمان عليه السلام، لبيان ما وقع فيه سليمان عليه السلام.
فأيهما أولى: التفسير بمجمل الروايات التي وردت عن السلف، أو التفسير بهذا الحديث الوارد في أخبار سليمان عليه السلام؟
إن حمل الآية على هذا أو ذاك من باب الرأي، لكن أيهما أنسب في فهم الآية، وسياقها؟
إنَّ مجمل الأخبار التي حكاها المفسرون أنَّ الشيطان سُلِّط على سليمان عليه السلام، وأنه بلغ من تسليطه أن سلبه ملكه، وأنكره الناس، حتى عاد إليه ملكه وانتقم من هذا الشيطان العاتي.
وعلى هذا المجمل وردة روايات المفسرين، وهو قول الجمهور منهم، حتى إنه لا يكاد يوجد خلاف بين السلف على هذا المجمل من القصة، والسياق يشير إليه، وذلك لأنه لما طلب المُلْكَ الذي لا ينبغي لأحد من بعده، كان منه تحكمه في الشياطين، ولم يكن قبل فتنه معصومًا عن تسلطهم عليه.
¥