ولاينافي كذلك ما ثبت في صحيح مسلم أيضاً من حديث ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ... الحديث.
وفيه: فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطى الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المُقْحِمَات. [أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب ذكر سدرة المنتهى 3/ 5 النووي رقم [173]. والمُقْحِمَات: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها النَّار: أي تلقيهم فيها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/ 19، مادة (قحم).]؛ لأن هذا ليس فيه تصريح بأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها، فيجوز أن يكون جبريل نزل بها تأكيداً وتقريراً، أو نحو ذلك، وقد ثبت نزوله عليه السلام بالآية الواحدة مرتين. [انظر: روح المعاني للألوسي 10/ 124، وانظر: النوع الحادي عشر في الإتقان للسيوطي وهو ما تكرر نزوله 1/ 113، وانظر: تهذيب وترتيب الإتقان في علوم القرآن لمحمد عمر بازمول ص 147.]
وأمَّا كيف كان جبريل ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
فالجواب ذكره الرسول r عندما قال في حديث عائشة: {أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول}.
وبهذا يتضح لنا معنى قول ابن عبدالبر في شرحه لهذا الحديث: ( ... ولكنه أراد بهذا الحديث نزول ما يُتلى - والله أعلم -) وقوله: (ولكن المقصد بهذا الحديث إلى نزول القرآن - والله أعلم -).
ولعل ما ذكره ابن عبدالبر هنا أولى من قول الحافظ ابن حجر: (وأُورد على ما اقتضاه الحديث - وهو أن الوحي منحصر في الحالتين - حالات أخرى: إمَّا في صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة، وإمَّا في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سدّ الأفق.
والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما، وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلاَّ مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس فإنه بيّن بها صفة الوحي لا صفة حامله) (فتح الباري لابن حجر 1/ 27.) ا هـ.
فحملُ الحالتين المذكورتين في الحديث على نزول القرآن خاصة، وحمل بقية الحالات التي وردت بها الأحاديث والآثار الأخرى على ما سوى القرآن يزيل الإشكال، ويرد على الإيراد الذي أورده ابن حجر وذكر وجوهاً متعددة في الجواب عليه.
ولايعني هذا أن غير القرآن لاينزل بالحالات المذكورة في حديث عائشة، بل هو ينزل بها وبغيرها، قال الحافظ ابن حجر: (والظاهر أن نزول الوحي بهذه الكيفية لايختص بالقرآن كما يدل على ذلك حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه رآه صلى الله عليهوسلم حال نزول الوحي عليه وإنه ليغط) (من فتح الباري لابن حجر 1/ 28 بتصرف واختصار) ا هـ.
ومِمَّا يقوي ما ذهب إليه ابن عبدالبر - من حمل حديث عائشة على نزول القرآن - ويرجحه أنه لم يرد في الأحاديث والآثار التي ذكر فيها حالات أخرى غير الحالتين المذكورتين في الحديث السابق - ما يدل على أن شيئاً من القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بها، وإنَّما غاية ما تدل عليه أن الوحي نزل على النبي r فيها، ومعلومٌ أن من الوحي ما هو قرآن ومنه ما ليس بقرآن كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - في أقسام الوحي.
وبهذا نعلم (أن وحي القرآن الكريم من قبيل الوحي الجليّ - وهو ما كان عن طريق إرسال أمين الوحي جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليوحي إليه قرآناً عربياً في اليقظة لا في المنام، بالكلام لا بالإلهام -.
وهذا النوع هو أشهر أنواع الوحي وأكثرها وقوعاً كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين ُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ا؟ لْمُنذِرِينَ} [الشعراء: 193 - 194].
¥