بين القراءات إلا من كان بمستوى ابن جرير وأين مثل أبي جعفر؟ لكن السياق القرآني والمعنى الظاهر للفقرة أو القطعة قد ينصر إحدى القراءات على بعض. فقراءة الكوفيين (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا) بالتخفيف تبدو أقوى وأكثر ملاءمة للسياق من قراءة البصريين (كُذِبوا) بالتشديد. ذلك أن الآية تصوّر حالة الرسل النفسية والمفارقة التي يشعرون بها بين عظم تكذيب قومهم وجراءتهم على الله وبين حلم الله تعالى عنهم مما تشبه (اليأس)، ولبيان بغتة نصر الله تعالى وحلاوته ويقين مجيئه لمن لم ييأس من روحه قال تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا، ومعنى كُذبوا أُخلِفوا ما وُعدوا، ولأن الفاعل المجهول شيء من قبل الله تعالى حسن العدول الى كُذبوا بالتشديد لزيادة فائدة تنزيه الرسل من ظنهم ما لا يليق بربهم. لكن قراءة التشديد ستجعل الفاعل المجهول هو قومهم، والقوم قد كذّبوا، فلا يناسب التشديد السياق أبدا. على أهمية السياق كان يعتمد المرجحون بين القراءات، وربما غضب أو امتعض المرجحون للروايات، ويميل علم الدلالة المعاصر الى نصر المرجحين للسياق لسبب من علم التاريخ، فلا يجوز إخضاع النص المتواتر قطعيّ الثبوت ومنه سياقه العام وترابط جمله وأجزائه لنصوص ظنية الثبوت مروية في ضوئه وظلاله. كتبت هذا الترجيح في ظلال القراءتين قبل أن أقرأ تفسير ابن جرير والآن سأراجعه لأرى ماذا قال: ثم ارتأيت نسخه من نسخة الطبري على موقع مجمع الملك فهد لأشرك القارئ الكريم معي في التفكير، فنحن نفكّر في النصوص وليس في الفراغ،، قال الطبري رحمه الله تعالى: * * * < 16 - 296 > القول في تأويل قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى , فدعوْا من أرسلنا إليهم , فكذبوهم , وردُّوا ما أتوا به من عند الله = (حتى إذا استيئسَ الرسل)، الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله، ويصدِّقوهم فيما أتوهم به من عند الله = وظن الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذِّبة أن الرسل الذين أرسلناهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله، من وَعده إياهم نصرَهم عليهم = (جاءهم نصرنا). * * * وذلك قول جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 19987 - حدثنا أبو السائب سلم بن جنادة , قال: حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن مسلم , عن ابن عباس , في قوله: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا)، قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومُهم , وظنَّ قومهم أن الرسل قد كذَبَوهم , جاءهم النصر على ذلك , فننجّي من نشاء. 19988 - حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا أبو معاوية الضرير, قال: حدثنا الأعمش , عن مسلم , عن ابن عباس، بنحوه = غير أنه قال في حديثه، قال: " أيست الرسل " , ولم يقل: " لما أيست ". < 16 - 297 > 19989 - حدثنا محمد بن بشار , قال: حدثنا مؤمل , قال: حدثنا سفيان , عن عطاء بن السائب , عن سعيد بن جبير: (حتى إذا استيئس الرسل)، أن يسلم قومهم , وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبُوا جاءهم نصرنا. 19990 - حدثنا ابن بشار , قال: حدثنا مؤمل , قال: حدثنا سفيان , عن الأعمش , عن أبي الضحى , عن ابن عباس , مثله. 19991 - حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمران بن عيينة , عن عطاء , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا)، قال: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم , وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا , (جاءهم نصرنا). 19992 - حدثنا ابن بشار , قال: حدثنا عبد الرحمن , قال: حدثنا سفيان , عن حصين , عن عمران السلمي , عن ابن عباس: (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا)، أيس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم , وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم. 19993 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد , قال: حدثنا جرير, عن حصين , عن عمران بن الحارث السلمي , عن عبد الله بن عباس , في قوله: (حتى إذا استيئس الرسل)، قال: استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم = (وظنوا أنهم قد كذبوا)، قال: ظن قومهم أنهم جاؤوهم بالكذب.
¥