وهذا ما اختاره الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حيث قال: (وجه الحديث عندنا ليس على الاختلاف في التأويل ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ، على أن يقرأ الرجل القراءة على حرف، فيقول له الآخر: ليس هكذا ولكنه كذا على خلافه.
وقد أنزلهما الله جميعاً ... فإذا جحد هذان الرجلان كل واحد منهما ما قرأ صاحبه لم يؤمن - أو قال: يَقْمَن - أن يكون ذلك قد أخرجه إلى الكفر لهذا المعنى) (10).
ثُمَّ ذكر بسنده عن أبي العالية الرياحي أنه كان إذا قرأ عنده إنسان لم يقل: ليس هو كذا، ولكن يقول: أمَّا أنا فاقرأ هكذا؛ فلما ذُكر ذلك لإبراهيم (11)، قال: أراه قد سمع أنه من كفر يحرف فقد كفر به كله.
القول الثالث: أن المراد الجدالُ بالقرآن في الآي التي فيها ذكر القدر والوعيد، وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل، وما يجري بينهم من الخوض في تلك المسائل التي مبناها على الاعتقاد والتسليم.
وأمَّا آيات الأحكام والحلال والحرام فلاتدخل في معنى الحديث؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنازعوها فيما بينهم، وتحاجُّوا بها عند اختلافهم في الأحكام، ولم يتحرجوا عن التناظر بها وفيها، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فعُلم أن النهي منصرف إلى غير هذا الوجه، والله أعلم (12).
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: (وأمَّا التنازع في أحكام القرآن ومعانيه فقد تنازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من ذلك) (13).
وقال: (وأمَّا الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يُحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك؛ لأن الله عز وجل لا يوصف عند الجماعة أهل السنة إلاَّ بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت الأمة عليه، وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو بإمعان نظر) (14).
وقال - رحمه الله -: (وقد أجمع أهل العلم بالسنن والفقه - وهم أهل السنة - على الكف عن الجدال والمناظرة فيما سبيله الاعتقاد مِمَّا ليس تحته عمل، وعلى الإيمان بمتشابه القرآن والتسليم له، ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الصفات كلها وما كان في معناها، وإنَّما يبيحون المناظرة في الحلال والحرام ومسائل الأحكام) (15).
ومِمَّا سبق يعلم أن آيات العقائد - كآيات القدر والوعيد والأسماء والصفات - لايجوز المراء والجدال فيها لأمرين:
أحدهما: أن هذه الآيات سبيلها التسليم والاعتقاد.
الثاني: أن الجدال والمراء فيها يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، بسبب الدخول في مباحث لا يدركها العقل، والخوض في ذات الله ووصفه بما لا يليق به تعالى.
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: (قال أبو عمر: وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد؛ لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين، بسبب الدخول في مباحث لا يدركها العقل، والخوض في ذات الله ووصفه بما لا يليق به تعالى (16).
قال ابن عبد البر - رحمه الله -: (قال أبو عمر: وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد، لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين، ألا ترى مناظرة بشر (17) في قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] قال: هو بذاته في كل مكان، فقال له خصمه: فهو في قلنسوتك وفي حشك وفي جوف حمارك - تعالى الله عما يقول - حكى ذلك وكيع (18)، وأنا - والله - أكره أن أحكي كلامهم قبحهم الله، فعن هذا وشبهه نهى العلماء، وأمَّا الفقه فلا يوصل إليه ولا ينال أبداً دون مناظرة فيه وتفهم له) (19).
¥