أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: لقد جلست أنا وأخي (20) مجلساً ما أحب أنّ لي به حُمْرَ النَّعَم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مَشْيَخَةٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسٌ عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَةً (21)، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَباً، قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: {مهلاً يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربِهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يُصَدِّق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه} (22).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا يَنْزِعُ آية وهذا ينزعُ آية، ثُمَّ ذكر معنى الحديث (23).
وهناك قول رابع في معنى الحديث، وهو: أن المرادَ المراءُ والجدال في القرآن: هل هو خالق أو مخلوق؟.
فالخوض في هذه المسألة والمراء والجدال فيها من البدع المحدثة التي لم تكن موجودة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى ظهرت البدع وانتشرت وكثُر أهل الكلام والجدال الذين لا همّ لهم إلاَّ الخوض في مثل هذه المسائل التي تشبه السؤال والبحث في مسألة الاسم والمسمى هل هما شيء واحد؟ أو أن الإسم غير المسمى؟!.
ذكر ابن عبد البر بسنده عن الشافعي أنه قال: إذا سمعت الرجل يقول: الإسم غير المسمى أو الاسم المسمّى فاشهد عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له (24).
وذكر بسنده أيضاً عن سليم بن منصور بن عمّار (25) قال: كتب بشر المريسي إلى أبي - رحمه الله -: أخبرني عن القرآن أخالق أم مخلوق؟ فكتب إليه أبي: بسم الله الرحمن الرحيم: عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لايرغب بدينه عن الجماعة، فإنه إن يفعل فأولى بها نعمة، وإلاَّ يفعل فهي الهلكة، وليس لأحد على الله بعد المرسلين حجة.
ونحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة تشارك فيها السائل والمجيب، تعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، ولا أعلم خالقاً إلاَّ الله، والقرآن كلام الله، فانْتَهِ أنت والمختلفون فيه إلى ما سماه الله به تكن من المهتدين، ولاتسم القرآن باسم من عندك، فتكون من الهالكين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشونه بالغيب، وهم من الساعة مشفقون (26). ا هـ.
قال الإمام الطحاوي - رحمه الله -: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلّمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين) (27) ا هـ. ..
قال ابن عبد البر: (قال أبو عمر: ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات وجاء عن الصحابة وصحّ عنهم فهو علم يدان به، وما أُحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فبدعة وضلالة، وما جاء في أسماء الله وصفاته عنهم سُلِّمَ له ولم يُناظر فيه كما لم يناظروا.
قال أبو عمر: رواها السلف وسكتوا عنها وهم كانوا أعمق الناس علماً وأوسعهم فهماً وأقلهم تكلفاً، ولم يكن سكوتهم عن عيّ، فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر) (28) ا هـ.
فهذا مجموع ما وجدته من أقوال للعلماء في معنى حديث {المراء في القرآن كفر} وهي كلها صحيحة، ولفظ الحديث يحتملها جميعاً، ولا تعارض بينها، بل هي أقوال متفقة غير مختلفة، فالمراء في القرآن كفرٌ على كل قول من الأقوال السابقة.
ومن المراء في القرآن الذي هو كفرٌ أيضاً المراءُ في تنزيله، وذلك بأن يمتري أحدٌ ويشك في كون القرآن منزلاً من الله رب العالمين، فهذا كفرٌ أيضاً؛ لأنه شكٌّ فيما أخبر الله به كما قال سبحانه: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2].
ومن المراء المحرم في القرآن أن يحمل الآية على معنى ضعيف يخالف الحق، ويناظر على ذلك مع ظهورها له في خلاف ما يقول.
¥