وثَمَّ أنواع أُخَرُ يعرفها من زوال هذه الأمور، ولا ينبئك مثل خبير، فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة، وصرَّح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه «. (الموافقات، للشاطبي، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان (4: 198 ـ 199)، وينظر: (1: 59)، (2: 109 ـ 131)).
ويمكن تلخيص هذه الضوابط التي ذكرها الشاطبي (ت: 790) فيما يأتي:
الأول: أن يكون العلم مما يعرفه العرب.
وقد أخرج بهذا الضابط العلوم التي لم تنشأ عند العرب ولا عرفتها؛ كعلم الفلسفة. ويلحق به علم المنطق وغيرهما من العلوم التي لم يكن للعرب بصرٌ بها، فإن مثل هذه العلوم لا يمكن أن تكون من علوم القرآن على الإطلاق. وهي تخرج ـ كذلك ـ بالضابطين الآتيين أيضًا.
الثاني: أن يكون للسلف فيها اعتناء.
وهذا يظهر في جملة من علوم القرآن، كعلم أسباب النُّزول، وعلم المكي والمدني، وعلم الناسخ والمنسوخ.
ولو زيد في هذا الضابط قيد يكون بمثابة الدرجة الثانية، وهو أن يكون لها أصل في كلام السلف، فالعلم إن لم يكن مما اعتنى به السلف، فلا أقلَّ من أن يكون له ذكرٌ في علومهم؛ كعلم مبهمات القرآن.
الثالث: أن يكون وسيلة لفهم القرآن.
وقد عدَّ منها علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ وعلم الأسباب وعلم المكي والمدني وعلم القراءات وعلم أصول الفقه، وغالب هذه العلوم من وسائل فهم القرآن؛ أي: تفسيره.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك معرفة ما يتعلق به من أحوال؛ لأنَّ بعض علومه قد تكون مقدمات نظرية له، كعلم الوحي، وقد تكون معلومات نظرية منبثقة منه؛ كعدِّ الآي مثلاً.
وهذه العلوم لا أثر لها على فهمه إذا كان بمعنى التفسير؛ لأن جهلها لا يؤثر على التفسير، لكنها من علوم القرآن التي لا تنفكُّ عنه ولا توجد في غيره.
وهذا يعني أن يضاف قيد رابع، وهو:
رابعًا: أن يكون منبثقًا منه، لا ينتسب إلى غيره.
وهذا يدخل فيه جملة من العلوم المتعلقة به من جهته هو ولا تتعلق بغيره من العلوم؛ كرسم المصحف، ونقطه وضبطه، وأسماء سوره، وتجزئاته، وغير ذلك من العلوم التي لا توجد في غيره.
ثانيًا: ما الفرق بين علوم القرآن وموضوعاته؟
للعلم إطلاق واسع بحيث يشمل كل معلوم، لكن المراد هنا العلوم التي صار لها مسمَّى خاصًّا؛ كما يقال: علم النحو، وعلم اللغة ...
ويطلق العلم في الاصطلاح على المسائل المضبوطة ضبطًا خاصًّا، وهو يشمل جملة من الأصول والمسائل التي تجتمع في موضوع كليٍّ واحد.
أما الموضوعات، فإنها جملة المسائل التي تُطرَح في هذا العلم، كموضوع المبتدأ والخبر في علم النحو.
وقد يتكوَّن من موضوع منها علمًا، إذا اتسعت مسائله وصار له مبادئ وأصول تجمع هذه المسائل.
ويرجع ذلك إلى أمرين:
الأول: تنوع المسائل المطروحة في الموضوع.
الثاني: اصطلاح المصطلحين على تسمية هذه المسائل المعينة بالعلم الفلاني.
ولعله من الواضح أنه لا يلزم أن يكون كل موضوع تحدث فيه القرآن داخلاً في علوم القرآن، فورود بعض الآيات في بعض العلوم لا يعني أنَّ هذه العلوم من علوم القرآن، ومن أمثلة ذلك:
ورود عدد من الآيات في النجوم؛ لا يجعل علم النجوم من علوم القرآن.
وورود عدد من الآيات في البحار؛ لا يجعل علم البحار من علوم القرآن.
فهذه الآيات الورادة في هذين المثالين وغيرهما من أمثلة الموضوعات التي تطرق إليها القرآن؛ لم يتطرق إليها القرآن على أنها علوم تجريبية بحته، التي سبيلها الفرض والتخمين، ثم الوصول إلى الحقيقة بعد ذلك. كلا، لقد تحدث عنها القرآن على أنها من أدلة التوحيد أو غيره، وجاءت لإثبات قضايا عقدية، ولا يمكن أن تخالف هذه الحقيقةُ الكلاميةُ (أي: آيات القرآن) الحقيقةَ الكونيةَ؛ لأن الخالق للكون هو المخبرُ عنه بأنه كذا وكذا؛ فلاتحاد المصدر الذي ينبعان منه، لم يكن بين هذه الحقائق المقروءة والحقائق المشاهدة تفاوت ولا تناقض.
لقد طرق القرآن موضوعات كثيرة، واستُنبط منه عدَدًا من العلوم التي نُسِبت إليه، فمتى يمكن أن يُعدَّ الموضوع الذي تطرق إليه علمًا لا موضوعًا قرءانيًا؟
لأضرب لك مثلاً وضح المراد بهذا التساؤل:
¥