يكثر الحديث في القرآن عن إهلاك الأمم المخالفة لشريعة، وقد يستنبط الباحث موضوعًا في ذلك، ويعنونه بـ» هلاك الأمم في القرآن أسبابه ونتائجه «، فهل يمكن أن يقال: علم هلاك الأمم، على أنه من علوم القرآن.
لا شكَّ أنك ستقف أمام هذا وترفضُه، وستكون غير مقتنعٍ بدخول مثل هذا الموضوع في علوم القرآن العامَّة، وإنك لو سِرْتَ على هذا المنهج لَغَدَت علوم القرآن كثيرةً كثرةً لا يمكن ضبطها ولا عدُّها، فأي بحث في موضوعات القرآن التي طرقها، فهي على هذا الأسلوب من علومه.
لكن لو قيل لك: علم قصص القرآن، فإنك ستجد لذلك قبولاً في نفسك أكثر من الموضوع الأول، فما الضابط في الأمر في مثل هذا؟
يظهر أنَّ الأمر نسبيٌّ، فمثلُ قصصِ القرآن، وأمثال القرآن، وأقسام القرآن، وجدل القرآن يمكن أن تكون موضوعاتٍ قرآنية، ويمكن أن تكون علومًا مستقلة ضمن علوم القرآن.
ومن خلال تتبع بعض علوم القرآن التي جمعها الزركشي (ت: 794) في كتاب (البرهان في علوم القرآن)، والسيوطي (ت: 911) في كتاب (الإتقان في علوم القرآن)، وما أحدثه الباحثون المعاصرون من علوم مستقلة طرحوها في كتبهم = لم أجد ضابطًا واضحًا في إدخال علم من العلوم الجزئية في علوم القرآن.
ولو أَخَذْتَ ـ على سبيل المثال ـ علوم القرآن المطروحة في كتابي الزركشي (ت: 794) والسيوطي (ت: 911)، وفهرستها؛ لظهر تباين الكتابين في نوع العلوم التي كتبوا فيها.
وهذا التباين إنما كان بسبب الاجتهاد في تصنيف هذه العلوم وعدِّها من علوم القرآن، مع ملاحظة أن الحرص على تكثير هذه العلوم ـ مع أن بعضها قد يدخل في بعض ـ كان سببًا آخر من أسباب هذا التباين.
ويلاحظ أنَّ المراد بالعلم الموصوف به جملة علوم القرآن ليس العلم المذكور بحدوده عند المناطقة، لذا لا يقال فيه هل هو من قبيل التصديقات أو من قبيل التصورات؟
وتعريف العلم عند المناطقة لا يتمشى مع علوم الشريعة البتة، ومن أخذ بحدودهم في ذلك فإنه قد يخرج بعض العلوم الإسلامية عن مسمى العلم، كما فعل الطاهر بن عاشور (ت: 1393)، قال:» هذا، وفي عَدِّ التفسير علمًا تسامح؛ إذ العلم إذا أُطلِق، إما أن يراد به نفس الإدراك ... وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل، وغما أن يراد به التصديق الجازم، وهو مقابل الجهل ... «(التحرير والتنوير (1: 12)).
ويمكن أن يوجَّه النظر إلى اعتبار علم من العلوم التي هي خارجة عما ذكرت سابقًا إلى كون هذا العلم المذكور من مقاصد القرآن، وأنه مقصود لذاته، فإذا ظهر أنه مقصد من مقاصد القرآن ومقصود لذاته جاز أن يُفردَ عِلْمًا مستقلاً؛ كعلم قصص القرآن الذي ينتشر انتشارًا واضحًا في سورٍ كثيرة من سورِ القرآن، وهو أسلوب من الأساليب التي يُتوصَّل بها إلى غايات وعظية وتقريرات عقدية، وهدايات تربوية.
وإذا وازنت بين طرح القرآن للقصص وبين طرحه لجملة من مسائل العلم التجريبي المنتشرة في القرآن من عالم البحار والفلك والحيوان والنبات، وغيرها = فإنه سيظهر لك جليًّا مَيْزُ الموضوعات وافتراقها في الغايات.
تصنيف علوم القرآن وترتيبها:
كما لم يكن هناك ضابط في إدخال علم من العلوم في علوم القرآن، فإنه لم يوجد كذلك تصنيف لهذه العلوم ولا ترتيب منطقيٌّ لها، بحيث يجمع أشباهها ونظائرها، ويرتب أولها على آخرها.
ومن الاجتهادات في ترتيب علوم القرآن وتصنيفها ما قام به البُلْقِيني (ت: 824) في كتابه مواقع العلوم من مواقع النجوم، قال:» ... وأنواع القرآن شاملة، وعلومه كاملة، فأردت أن أذكر في هذا التصنيف ما وصل إلى علمي مما حواه القرآن الشريف من أنواع علمه المنيف، وينحصر في أمور:
الأمر الأول: مواطن النُّزول وأوقاته ووقائعه، وفي ذلك اثنا عشر نوعًا:
المكي، المدني، السفري، الحضري، الليلي، النهاري، الصيفي، الشتائي، الفراشي، النومي، أسباب النُّزول، أول ما نزل، آخر ما نزل.
الأمر الثاني: السند، وهو ستة أنواع:
المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبي، الرواة، الحفاظ.
الأمر الثالث: الأداء، وهو ستة أنواع:
الوقف، الابتداء، الإمالة، المد، تخفيف الهمزة، الإدغام.
الأمر الرابع: الألفاظ، وهو سبعة أنواع:
¥