فهذا قول يخالف مخالفة صريحة ما جاء في آيات كثيرة من أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الله مباشرة بواسطة جبريل عليه السلام، كما قال سبحانه وتعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) [الشعراء: 192 - 194]، وقوله جلَّ وعلا: (وَالَّذِينَ ءَاتَيْناَهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِالْحَقِّ) [الأنعام: 114]، وقوله تعالى: (يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) [المائدة: 67].
فهذه الآيات - وغيرها كثير - تدل بوضوح أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من ربه جلّ وعلا، لا من السماء الدنيا ولا من اللوح المحفوظ ولا من غير ذلك.
وسيأتي تقرير ذلك في الكلام عن كيفية نزول القرآن إن شاء الله.
ثُمَّ إن ذكر مثل هذه الأقوال المخالفة للأصول المعتبرة فيه تكثير للأقوال، وتسويدٌ للصفحات بدون فائدة تذكر، وأقرب مثال على ذلك ما ورد من أقوال في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف حتى أوصلها بعضهم إلى أكثر من خمسة وثلاثين قولاً، وأكثرها أقوال مبنية على اجتهادات عقلية لايدلّ عليها دليل، بل كثير منها يخالف مخالفةً صريحة دلالة الأحاديث الصحيحة كقول من قال: إن العدد {سبعة} لا مفهوم له وإنَّما يراد به التكثير والمبالغة من غير حصر.
فهذا قول ضعيف مردود - وإن كان له مستند في اللغة - لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة التي دلت على أن العدد سبعة الذي بعد الستة وقبل الثمانية هو المراد.
وهنا أمرٌ آخر مهم في التعامل مع القول المخالف للأصول الصحيحة المعتبرة عند أهل العلم، وهو أنه لاينبغي اعتماد هذه الأقوال أصلاً، ولا ذكرها على أنها أقوال في المسألة إلاَّ في أضيق الحدود وعند الحاجة إلى ذلك.
ومن باب أولى لاينبغي الاشتغال بالرد عليها؛ لأنها لاتستحق ذلك.
وقد أشار ابن عبد البر - رحمه الله - إلى أن القول المخالف لما جاء في القرآن، ولما ثبت في السنة، ولما أجمع عليه علماء الأمة لاينبغي الاشتغال به وبالرد عليه.
قال - رحمه الله - وهو يقرر ثبوت النسخ في أحكام الله: (وفيه أيضاً دليلٌ على أن في أحكام الله - عزوجل - ناسخاً ومنسوخاً على حسب ما ذكر الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، واجتمعت على ذلك أمته r فلا وجه للقول في ذلك) ا هـ. [التمهيد 17/ 47 - 48]
وقال في موضع آخر: (وفي ذلك دليلٌ على أن في أحكام الله تعالى ناسخاً ومنسوخاً وهو ما لا اختلاف فيه بين العلماء الذين هم الحجة على مَن خالفهم) ا هـ. [الاستذكار 7/ 204]
فقوله هذا يدل على أن المسائل الواضحة الثبوت، الظاهرة الاستدلال لاتحتاج إلى إطالة القول فيها، ولا إلى كثرة الاستدلال على تقريرها.
ومِن هنا نعلم أن الذين ألفوا في علوم القرآن وأكثروا من إيراد الشبه المخالفة للصواب وتوسعوا في الرد عليها لم يوفقوا للمنهج السديد الذي كان ينبغي أن يسلكوه ويسيروا عليه، وهو عدم التعرض لهذه الشبه أصلاً وعدم إيرادها فضلاً عن الاشتغال بالرد عليها.
وهل من الحكمة أن نشتغل بالرد على كل قولٍ فاسدٍ معلومِ البطلان؟!.
لو فعلنا ذلك لضاعت أوقاتنا في الرد على هذه الأباطيل ولتركنا ما أوجب الله علينا من الاشتغال بما ينفعنا في ديننا ودنيانا، بل إن في إيراد بعض الشبه تعريفاً للجاهل بها، ونشراً لها، واهتماماً بها.
ويزداد الأمر سوءاً عندما يذكر من أورد هذه الشبه حجج القائلين بها، ويكثر من ذلك ثُمَّ إذا وصل إلى الرد عليها وإذا بها قد تقررت ورسخت في قلوب بعض من لا علم عنده ولا بصيرة، فيقع فيما كان يفر منه ويحذر من الوقوع فيه.
وينبغي أن نعلم أن عرض الشبه والأقوال الباطلة المخالفة لنصوص الكتاب والسنة منهجٌ مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة، الذين كانوا ينهون عن عرض الشبه، وعن سماعها، ويمنعون من مناظرة أصحابها والرد عليهم إلاَّ في بعض الحالات القليلة. [ينظر تقرير ذلك وضرب الأمثلة عليه في كتاب مناهل العرفان – دراسة وتقويم للشيخ خالد السبت 1/ 138 - 148، وقد ذكر الكيفية الصحيحة لمعالجة الشبه. ولمعرفة المنهج الصحيحة في معالجة الشبه ينظر ما كتبه محمد قطب في كتابه واقعنا المعاصر ص510 - 516].
ولايعني هذا أن نترك إقامة الحجة على أهل الباطل، ومجادلتهم بالتي هي أحسن وتوضيح ما اشتبه عليهم من أمور الدين.
بل إقامة الحجة على أهل الباطل مِمَّا أوجبه الله عزوجل على أهل العلم، وإيضاح الحق لهم عند الحاجة أمرٌ متعين، ولايجوز لمن كان عنده علم أن يكتمه إذا وجدت الحاجة إليه.
.قال العلامة السعدي في تفسيره تعليقاً على قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) [آل عمران: 60]: (وفي هذه الآية قاعدة وما بعدها دليل على قاعدة شريفة، وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق، وجزم به العبد من مسائل الإعتقاد وغيرها فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة سواء قدر العبد على حلها أم لا، فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه قال تعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه.) انتهى كلامه رحمه الله.
¥