إن أوذي على ما فعله لله أو على ما أمره به من طاعته ونهى عنه من معصيته وجب عليه الصبر ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذى في الله، فأجره على الله، ولهذا لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في الله لم تكن مضمونة، فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في الله نفقه كان على الله خلفه.
وإن كان قد أوذي على معصية فليرجع باللوم على نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه.
وإن كان قد أوذي على حظ، فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أمرٌ أمرُّ من الصبر، فمن لم يصبر على حر الهواجر، والامطار والثلوج، ومشقة الاسفار، ولصوص الطريق، وإلا فلا حاجة له في المتاجر وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في طلب شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقة في طلبه.
العاشر
أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبة الله له ورضاه، ومن كان الله معه دفع عنه من أنواع الأذى والمضرات ما لايدفع عنه أحد من خلقه، قال الله تعالى: {واصبروا إن الله مع الصابرين} الانفال 46 وقال: {والله يحب الصابرين} آل عمران
الحادي عشر
أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبدل من إيمانه جزء في نصرة نفسه، فإن صبر فقد أحرز إيمانه وصانه من النقص والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا.
الثاني عشر
أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه وقهر لها، وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقة، وأسره وإلقائه في المهالك، ومتى كان مطيعاً لها سامعاً منها مقهوراً معها لم تزل به حتى تهلكه، أو تتداركه رحمة من ربه. فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه؛ فحينئذ يظهر سلطان القلب ويثبت جنوده، فيفرح ويقوى ويطرد العدو عنه.
الثالث عشر
أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فإن الله وكيل من صبر وأحال ظالمه عليه، ومن انتصر بنفسه لنفسه وكله الله إلى نفسه فكان هو الناصر لها، فأين من ناصر الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه.
الرابع عشر
أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه وندامته واعتذاره، ولوم الناس له فيعود بعد إيذائه له مستحيا منه، نادماً على ما فعله؛ بل يصير موالياً له وهذا معنى قوله: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم «34» وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}. فصلت
الخامس عشر
ربما كان انتقامه سبباً لزيادة شر خصمه وقوة نفسه وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه كما هو المشاهد، فإذا صبر وعفى أمن من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما، وكم قد جلب الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت به نفوس ورياسات وأموال وممالك لو عفى المظلوم لبقيت عليه.
السادس عشر
أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها. لا عملاً، ولا إرادة وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول وما يفعل، فبين هو مظلوم ينتظر النصر والعز إذا انقلب ظالماً ينتظر المقت والعقوبة.
السابع عشر
أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب، إما لتكفير سيئة، أو رفع درجة، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته.
الثامن عشر
أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفى كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه، وخوفه وخشيته منه، ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله ولهذا تجد كثيراً من الناس إذا شتم غيره أو آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلاً كان يجده.
التاسع عشر
أنه إذا عفى عن خصمه، استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح عليه فلا يزال يرى نفسه دونه وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعفو.
العشرون
أنه إذا عفى وصفح كانت هذه الحسنة، فتولد له حسنة أخرى، وتلك الأخرى تولد أخرى، وهلم جرا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها، وربما كان هذا سبباً لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك.
¥