المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه، وذاق حلاوته. وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وطلب الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسه. بل يفرغ قلبه من ذلك. ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له. وألذ وأطيب. وأعون على مصالحه. فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ماهو أهم عنده، وخير له منه. فيكون بذلك مغبوناً. والرشيد لا يرضى بذلك. ويرى أنه من تصرفات السفيه. فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟.
فصل
المشهد السابع: مشهد الأمن فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام: أمن ماهو شر من ذلك. وإذا انتقم: واقعه الخوف ولابد. فإن ذلك يزرع العداوة. والعاقل لا يأمن عدوه، ولو كان حقيرا. فكم من حقير أردى عدوه الكبير؟ فإذا غفر، ولم ينتقم، ولم يقابل: أمن من تولد العداوة، أو زيادتها. ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه. ويكف من جزعه، بعكس الانتقام. والواقع شاهد بذلك أيضا.
فصل
المشهد الثامن: مشهد الجهاد وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله. وأمرهم بالمعروف. ونهيهم عن المنكر. وإقامة دين الله، وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام: قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن. فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها. فلا حق له على من آذاه. ولا شيء له قبله، إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع. فإنه قد وجب أجره على الله.
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سكنى مكة -أعزها الله- ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار. ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم. قال له عمر بن الخطاب -بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم- تلك دماء وأموال ذهبت في الله. وأجورها على الله، ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر. ووافقه عليه الصديق.
فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام. كما قال لقمان لابنه " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ".
فصل
المشهد التاسع: مشهد النعمة وذلك من وجوه.
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوماً يترقب النصر. ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ. فلو خير العاقل بين الحالتين -ولابد من إحداهما- لاختار أن يكون مظلوماً.
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه. فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه. فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب. ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه، ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء: فهو مغبون سفيه. فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك. فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه. وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك، وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها. فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر. فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده. وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة. وأنها في الحقيقة نعمة. والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة. وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاء.
هذا. وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض. فالعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة. ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئاً.
فصل
المشهد العاشر: مشهد الأسوة وهو مشهد شريف لطيف جداً. فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله، وأنبيائه وأوليائه، وخاصته من خلقه. فإنهم أشد الخلق امتحاناً بالناس، وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور. ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم. وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله. وقد قال له ورقة بن نوفل لتكذبن. ولتخرجن. ولتؤذين وقال له ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم صلى الله عليه وسلم.
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله، وخواص عباده: الأمثل فالأمثل؟.
ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء، وأذى الجهال لهم. وقد صنف في ذلك ابن عبد البر كتاباً سماه محن العلماء.
فصل
المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها. فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله، والإخلاص له ومعاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرة العين به، والأنس به، واطمأن إليه. وسكن إليه. واشتاق إلى لقائه، واتخذه ولياً دون من سواه، بحيث فوض إليه أموره كلها. ورضي به وبأقضيته. وفني بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه، عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة. فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة. فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه. فهو قلب جائع غير شبعان. فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه. وانبعثت إليه دواعيه. وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم.) انتهى من مدارج السالكين 3/ 94 - 103 بتحقيق عبدالعزيز الجليل. طبعة دار طيبة.