(قال ابن فورك: قيل: أنزلت التوراةُ جُملةً؛ لأنََّها نزلت على نَبِيٍّ يكتبُ ويقرأُ، وهو موسى [صلى الله عليه وسلم]، وأنزل اللهُ القرآن مفرقاً لأنَّهُ أنزلَ غَيْرَ مكتوبٍ على نَبيٍّ أُمِّيٍّ.
وقال غيرهُ: إنما لم يَنْزل جُملةً واحدةً لأَنَّ منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أُنزلَ مفرقاً، ومنه ما هو جوابٌ لسؤالٍ، وما هو إنكارٌ على قولٍ قيلَ، أو فعلٍ فُعِلَ)
ثم قال السيوطيُّ تعقيباً على هذا تحت عنوانٍ جانبيٍ يصنعه كثيراً في كتابه الإتقان:
(تذنيب): (ما تقدم في كلام هؤلاء من أن سائر الكتب أنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماءِ، وعلى ألسنتهم حتى كادَ يكونُ إجماعاً، وقد رأيتُ بعضَ فضلاءِ العَصْرِ – وهو البقاعي - أَنكرَ ذلك، وقالَ: (إِنَّهُ لا دليلَ عليهِ، بل الصوابُ أَنَّها نزلتْ مفرَّقةً كالقرآن).
وأقولُ: – أي السيوطي - الصوابُ الأولُ، ومن الأدلة على ذلك:
1 - آية الفرقان السابقة [وهي قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة}].
2 - أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قالت اليهود يا أبا القاسم! لولا أنزل هذا القرآن جملةً واحدةً كما أنزلت التوراة على موسى؟ فنَزَلتْ.
وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ: قال المشركون. وأخرج نحوه عن قتادة والسدي.
فإنْ قلتَ: ليس في القرآن التصريحُ بذلك، وإنما هو على تقدير ثبوتهِ قولُ الكُفَّارِ؟
قلتُ: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك، وعدوله إلى بيان حكمتهِ دليلٌ على صحته. ولو كانت الكتبُ كلها نزلت مفرقةً لكان يكفي في الرد عليهم أَن يقولَ: إن ذلك سُنَّةُ الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة، كما أجاب بِمثل ذلك قولهَم: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)؟ فقال: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. وقولهم: (أبعث الله بشراً رسولا)؟ فقال: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نُوحي إليهم). وقولهم: كيف يكونُ رسولاً ولا هَمَّ لَهُ إلا النساء؟ فقال: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريةً). إلى غير ذلك.
3 - ومن الأدلة على ذلك أيضاً قوله تعالى في إنزال التوراة على موسى يوم الصَّعقةِ: (فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له في الألواحِ من كل شيء موعظةً وتفصيلاً لكل شيءٍ فخذها بقوةٍ) (وألقى الألواح) (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة)، (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة). فهذه الآيات كلها دالةٌ على إتيانهِ- أي موسى- التوراةَ جُملةً.
4 - وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباسٍ قال: أعطي موسى التوراة في سبعة ألواحٍ من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة، فلما جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفاً على عبادة العجلِ رمى بالتوراةِ من يده فتحطمت، فرفع الله منها ستة أسباعٍ وبقي منها سبعٌ.
5 - وأخرج من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رفعَهُ قال: (الألواحُ التي أنزلت على موسى كانت من سدرِ الجنةِ، كان طول اللوحِ اثني عشر ذراعاً).
6 - وأخرج النسائيُّ وغيرهُ عن ابن عباسٍ في حديث الفتونِ قال: أخذ موسى الألواحَ بعدما سكتَ عنه الغَضَبُ، فأمرهم بالذي أَمر اللهُ أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نَتَقَ اللهُ عليهم الجبلَ كأنه ظُلَّةٌ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأقروا بها).
7 - وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهمُ التوراةُ جُملةً واحدةً فكبُرَ عليهم، فأبوا أن يأخذوها حتى ظَلَّلَ الله عليهم الجبلَ فأخذوها عند ذلك.
فهذه آثارٌ صحيحةٌ صريحةٌ في إنزالِ التوراةِ جُملةً). [انظر: الإتقان للسيوطي 1/ 134 - 136 طبعة مصطفى ديب البغا – دار ابن كثير]
¥