وأما إبراهيم البقاعي (ت885هـ) الذي يرى أن الكتب السماوية السابقة كالتوراة وغيرها نزلت مفرقة كالقرآن الكريم فتجد كلامه في ذلك عند تفسير قوله تعالى في سورة النساء: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ) حيث قال: (ولَمَّا أخبر تعالى بما على المُفَرِّقين بين الله ورسله وما لأضدادهم أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة، وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا من اليهود قالا كذباً: إن كنت نبياً فأتنا بكتابٍ جُملةً من السماءِ نعاينه حين يَنْزِلُ - كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بكتابه كذلك، فأنزل الله تعالى موبخاً لهم على هذا الكذب مشيراً إلى كذبهم فيه موهياً لسؤالهم محذراً من غوائله مبيناً لكفرهم بالله ورسله: {يسألك}. ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله، وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات، وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه على وجه يمكن قبوله، فوجهوا مكايدهم نحوه بهذه الشبهة ونحوها، زيفها سبحانه وتعالى أتم تزييف، وفضحهم بسببها غاية الفضيحة).
ثم قال: (وما أوهموا به في قولهم هذا من أن موسى عليه الصلاة والسلام أتى بالتوراة جُملةً كِذبةٌ تلقَّفها منهم مَنْ أراد الله تعالى مِنْ أهل الإسلام؛ ظناً منهم أن الله تبارك وتعالى أَقَرَّهُم عليها، وليس كذلك - كما يُفهمهُ السياقُ كُلُّهُ، ويأتي ما هو كالصريح فيه في قوله: {إنا أوحينا إليك} - الآية كما سيأتي بيانه، واليهود الآنَ مُعترفونَ بِأَنَّها لم تَنْزِلْ جُملةً. وقال الكلبيُّ في قصة البقرةِ التي ذبحوها لأجلِ القتيلِ الذي تداروا فيه: وذلك قبل نزول القَسَامَةِ في التوراة.)
ثم قال البقاعي في تفسيره لآية الفرقان: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ... الآية): (وليست الإشارة – أي في قوله كذلك -محتملة لأن تكون للكتب الماضية، لأن نزولها إنما كان منجماً كما بينته في سورة النساء عن نص التوراة المشير إليه نص كتابنا، لا كما يتوهمه كثير من الناس، ولا أصل له إلا كذبة من بعض اليهود شبهوا بها على أهل الإسلام فمشت على أكثرهم وشرعوا يتكلفون لها أجوبة، واليهود الآن معترفون بأن التوراة نزلت في نحو عشرين سنة والله الموفق)
[انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي 5/ 507 - 512، 13/ 380]
وما ذكره السيوطي والزرقاني، نقله أبو شهبة في كتابه (المدخل إلى دراسة القرآن الكريم ص 57 فقال: (أما الكتب السماوية السابقة فالمشهور بين العلماء أن ذلك كان جملة واحدة حتى كاد يكون هذا الرأي إجماعاً كما قال السيوطي) ثم ذكر أدلة السيوطي.
والأدلة التي ذكرها السيوطي كلها تتعلق بالتوراة، وليس فيها دلالة على نزول غيرها من الكتب السابقة جملة، وقد ألحقها بها الشيخ محمد أبو شهبة فقال: (وإذا كانت التوراة وهي أعظم الكتب السماوية السابقة، وأكثرها أحكاماً وهداية، وقد ثبت نزولها جملة واحدة، فأحر بغيرها من الكتب السماوية – كالإنجيل والزبور وصحف إبراهيم – أن تكون قد نزلت جملة واحدة، وآية الفرقان كما ذكرنا تدل على هذا التعميم وتؤيده) [المدخل ص 58].
وهذه المسألة ليست من المسائل الكبار التي يترتب عليها عمل، ونزول الكتب المتقدمة جملة واحدة أو مفرقة، ليس بذي أهمية، ولذلك لم يتوقف عندها العلماء كثيراً، ومعظم من تعرض لها ذكر القول الذي رجحه السيوطي، ولعل هذا سبب اعتبار السيوطي هذا يشبه الإجماع منهم. فقد ذكر هذا القول عدد من العلماء منهم ممن تقدم السيوطي:
- الطبري (ت310هـ) عند تفسيره لآية الفرقان (17/ 445 طبعة دار هجر).
- محمد بن عبدالله بن أبي زمنين (ت399هـ) في تفسيره 3/ 259
- أبو الليث السمرقندي في تفسيره 2/ 537
- الثعلبي (ت427هـ) في الكشف والبيان 7/ 132
- أبو المظفر السمعاني (ت489هـ) 1/ 497 عند تفسير قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء).
- البغوي (ت510هـ) في تفسير آية الفرقان (3/ 368)
- الرازي (ت604هـ) في تفسيره 24/ 69
- القرطبي (ت671هـ) في تفسيره 13/ 28
- العيني (ت855هـ) في عمدة القارئ 20/ 53. وغير هؤلاء كثير
غير أن الأدلة الصريحة بالقول بنزولها جُملةً ليست مؤكدة الصحة من حيث الإسناد فيما يظهر لي مع البحث العاجل، وهي في حاجة إلى دراسة حديثية، والأدلة الصحيحة من حيث الإسناد وهي الآيات القرآنية ليست صريحةً من حيث الدلالة على نزول الكتب السماوية جملةً واحدة. ولذلك لم أعثر على بحث مستفيض لهذه المسألة عند المفسرين أو غيرهم من المتقدمين ولعل السيوطي والبقاعي من أوسع من تعرض لبحثها، وربما يكون ذلك لعدم وجود ثمرة عملية لهذه المسألة. ولذلك قال الدكتور فضل حسن عباس في كتابه إتقان البرهان 1/ 156: (أما الكتب السماوية فقد اشتهر أنها نزلت جملة واحدة، وليس لدينا دليل صحيح قطعي نركن إليه في هذه القضية، بل هي أدلة احتمالية، منها أدلة استنبطها بعض العلماء من القرآن الكريم نفسه، ومنها آثار لا يمكننا التعويل عليها أو الركون إليها).
وليُعلم أنه لا يلزم لإثبات كمال القرآن والشريعة الإسلامية التقليل من شأن الشرائع السابقة، كالقول بأن نزول الكتب السماوية السابقة جُملةً واحدةً من مظاهر نقص تلك الشرائع، بل الاحتمالُ لا زال وارداً أن الكتب السماويةَ السابقة للقرآن نزلت مفرقة كذلك، لتلبية حاجات العباد، غير أن الإسلام جاء مهيمناً على تلك الأديان، وجاء القرآن مهيمناً على تلك الكتب، وكلها من عند الله سبحانه وتعالى. والله أعلم بالصواب، ولا يزال باب النقاش العلمي حول هذه المسألة مفتوحاً.
¥