ثم وجدت كلاماً صريحاً للجصاص في أحكام القرآن حول هذه المسألة يؤيد ما ذكرت، قال ما نصه:
(قَوْله تَعَالَى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: " نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا أَسْلَمُوا ". وَقَالَ قَتَادَةُ: " قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ مُتَمَسِّكِينَ بِشَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِهِ ". وَمِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَدْحًا لِلنَّصَارَى وَإِخْبَارًا بِأَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ صِفَةُ قَوْمٍ قَدْ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مِنْ إخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالرَّسُولِ. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْنَةٍ صَحِيحَةٍ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي مَقَالَتَيْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ مَقَالَةَ النَّصَارَى أَقْبَحُ وَأَشَدُّ اسْتِحَالَةً وَأَظْهَرُ فَسَادًا مِنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ تُقِرُّ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُشَبِّهَةٌ تُنْقِصُ مَا أَعْطَتْهُ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ التَّوْحِيدِ بِالتَّشْبِيهِ. انتهى
وكلامه هنا واضح - مع أن هناك من المفسرين من تعقبه في ذلك - والآثار التي أشار إلها في أول كلامه تؤيده، مع ما تدل عليه أيضاً الآيات الأخرى، إضافة إلى دلالة الواقع وأحداث التأريخ التي أثبتت شدة عداوة النصارى الكافرين للمسلمين، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وممن قال بأنها نزلت في المؤمنين منهم كذلك الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله حيث قال بعد تفسيره لها: (وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم.) انتهى من تفسير السعدي.
والله أعلم وأحكم، وهو الموفق للصواب.
فقال السائل:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم على جواباتكم المفيدة ونسأل الله أن يتقبل منكم ويزيدكم علما وتوفيقا آمين. وبعد:
فاسمح لي بمناقشة ما استشكلتُهٌ في جوابكم وفقكم الله:
فإني ما زلت أستشكل تفسير قوله تعالى (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) بالذين آمنوا منهم دون عموم النصارى أو جنس النصارى، رغم ما تفضلتم به من التتميم وما تضمنه من النقل .. وذلك لوجوه:
منها:
أن هذا يجعل معنى الآية كالآتي: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقرب الناس مودة للذين آمنوا المؤمنين ممن كانوا نصارى ثم أسلموا وآمنوا بما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم .. !
وواضح أن هذا يقلل فائدة الآية جدا، بل هو معنى ركيك لا يليق بكلام الباري عز وجل .. إذ كيف يقال إن المؤمنين أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والذين أشركوا؟! وحينئذ ما مزية كونهم كانوا من النصارى أو من غيرهم مادموا قد أسلموا؟ والله أعلم وأعز وأحكم سبحانه وتعالى.
ومنها:
قوله تعالى في الآية: "الذين قالوا إنا نصارى"
ومنها:
أن الآية مسوقة للمقارنة بين صلف وشدة عداوة اليهود والمشركين وكبرهم وعنادهم وجفائهم، وبين رقة النصارى ولينهم وقربهم (بالنسبة لأولئك) من الهداية.
وكل الذين يشرحون الآية ويفسرونها ويستدلون بها من أهل العلم يوردونها هذا المورد.
ومنها:
أن الله تعالى قال: ((لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا الذين اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)) ثم علل ذلك أي كون هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى أقرب إلينا مودة بقوله: ((ذلك بأن ... الخ))
¥