والحق أن الآثار المروية في تفسير الآية عن ابن عباس وابن الزبير وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم كما ذكرت بعضها -حفظك الله- فيها نوع إشكال على الكلام الذي سبق، ولعله يزول بحمل كلامهم على ما بعد التعليل، أي على قوله (منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ... ) الخ خاصة إذا علمنا أن الآية مدنية بل من أواخر القرآن، وقصة النجاشي وقعت قبل الهجرة كما أشار ابن كثير إلى هذا الوجه، وقد تقرر أن الصحابي قد يقول إن الآية نزلت في كذا يريد أنها تشمل هذا المعنى أو هذا الصنف مما يذكره من الأفراد فيدخلون في عموم لفظها .. ولهذا اختار ابن جرير –بعد سرد الروايات عنهم- أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة.
وبالتأمل في أقوال بعض المفسرين يظهر المعنى الذين ذكرناه:
قال ابن كثير: "واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها. فقوله تعالى " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " وما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسموه وسحروه وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة".
قال: "وقوله تعالى " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة كما قال تعالى " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية " وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر وليس القتال مشروعا في ملتهم ولهذا قال تعالى " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم" اهـ المقصود منه.
وفي الجلالين: " (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك) أي قرب مودتهم للمؤمنين (بأن) بسبب أن (منهم قسيسين) علماء (ورهبانا) عبادا (وأنهم لا يستكبرون) عن اتباع الحق كما يستكبر اليهود وأهل مكة"
ثم قال: "نزلت في وفد النجاشي القادمين عليه من الحبشة قرأ صلى الله عليه وسلم سورة يس فبكوا وأسلموا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى"اهـ
وأما الشيخ عبد الرحمن السعدي فقال في تفسيره: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا صارى) وذكر تعالى لذلك عدة أسباب: منها أن (منهم قسيسين ورهبانا) أي علماء متزهدين، وعبادا في الصوامع متعبدين، والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود وشدة المشركين. ومنها: (أنهم لا يستكبرون) أي ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم، فإن المتواضع أقرب إلى الحق من المستكبر. اهـ
ثم ذكر تمام الآيات ثم قال: "وهذه الآيات نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كالنجاشي وغيره، ممن آمن منهم، وكذلك لا يزال يوجد فيهم من يختار دين الإسلام ويتبين له بطلان ما كانوا عليه، وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين الإسلام" اهـ
فكلامهم في معنى الآية واضح مع قولهم بعد تقرير المعنى الذي أشرنا إليه إن هذه الآيات نزلت في النجاشي الخ، ولذلك فقد يتعين حمله على المحمل الذي ذكرناه. والله أعلم.
وأما كلام الجصاص رحمه الله فلا يظهر رجحانه ويرده كلام أكثر المفسرين.
وأما أن الواقع وأحداث التأريخ أثبتت شدة عداوة النصارى الكافرين للمسلمين في القديم كالحملات الصليبية والحديث كالاستكبار الانجليزي والفرنسي والإيطالي وغيره والمعاصر كالطغيان الأمريكي، فهذا كله لا ينافي المعنى المذكور، فهما معنيان غير متناقضين .. فتأمل.
بقي إشكال آخر على ما ذكرنا من جهة تركيبب الأية الكريمة: حاصله أنه تعالى قال: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} فالضمير المجرور في "منهم" راجع إلى النصارى بلا إشكال، ثم قال: {وأنهم لا يستكبرون} فهذا الضمير إما راجع إلى القسيسين وما عطف عليهم، أو هو راجع إلى النصارى (الذين قالوا إنا نصارى) ..
¥