ولم يكن الخليل بن أحمد يعني بالطبع هذه القراءات السبع التي تظاهر العلماء على اعتمادها وإقرارها بدءاً من القرن الرابع الهجري، ولكنه كان يريد أن ثمة سبع قراءات قرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقاها عنه أصحابه، ومن بعدهم أئمة السلف، وهي تنتمي إلى أمهات قواعدية لم يتيسر من يجمعها بعد ـ أي في زمن الخليل ـ وأنها لدى جمعها وضبطها ترتد إلى سبعة مناهج، وفق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف "
وهذا الفهم لرأي الخليل هو اللائق بمكانته ومنزلته العلمية، وهو المتصور في ثقافته ومعارفه زماناً ومكاناً، وبه تدرك أنه لم يكن يجهل أن عصر الأئمة متأخر عن عصر التنزيل وهو أمر لا يجهله أحد. أ0هـ وكلامه هنا يرمى به إلى الرأى الآتى وهو رابع الأقوال.
4 - وذهب جمع غفير من العلماء من أبرزهم أبو الفضل الرازى وابن قتيبة وابن الجزرى وغيرهم إلى أن الأحرف السبعة هى سبعة أوجه لا يخرج عنها الاختلاف فى القراءات وهى:
- اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث.
- اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر.
- اختلاف وجوه الإعراب.
- اختلاف بالنقص والزيادة.
- الاختلاف بالتقديم والتأخير.
- الاختلاف بالإبدال.
- اختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإظهار والإدغام.
وقد لقى هذا الرأى شهرة ورواجا عند كثير من العلماء وقد تعصب له الشيخ عبد العظيم الزرقانى فى مناهل العرفان ورجحه على غيره وساق الأمثلة لكل وجه منها وقرر أنه الرأى الذى تؤيده الأحاديث الواردة فى هذا المقام، وأنه الرأى المعتمد على الاستقراء التام دون غيره، وردَّ على كل اعتراض وجه إليه وإن بدا عليه التكلف فى بعض هذه الردود.
واعترض على هذا الرأى بأن الرخصة فى التيسير على الأمة بناء على هذا الرأى غير واضحة ولا ظاهرة، فأين الرخصة فى قراءة الفعل المبنى للمعلوم مبنيا للمجهول أو العكس، وأين هى أيضا فى إبدال حركة بأخرى، أو حرف بآخر، أو فى تقديم وتأخير، فإن القراءة على وجه من هذه الوجوه المذكورة لا يوجب مشقة فى شئ، يحتاج معها إلى أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم ربه المعافاة لعلة أن الأمة لاتطيق القراءة على وجه واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من هذه الوجوه المذكورة، كما جاء ذلك فى الأحاديث النبوية التى تحدثت عن قضية نزول القرآن على سبعة أحرف.
5 - وذهب سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب والقرطبى ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء إلى أن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات فى كلمة واحدة تختلف فيها الألفاظ مع اتفاق المعانى وتقاربها مثل (هلم، أقبل، تعال، إلى، قصدى، نحوى، قربى) فإن هذه سبعة ألفاظ مختلفة يعبر بها عن معنى واحد وهو طلب الإقبال، والمقصود أن منتهى ما يصل إليه عدد الألفاظ المعبرة عن معنى واحد هو سبعة وليس المقصود أن كل معنى فى القرآن عبر عنه بسبعة ألفاظ من سبع لغات.
وأصحاب هذا الرأى أيدوا كلامهم بأن التيسير المنصوص عليه فى الأحاديث متوفر فىهذا الرأى ثم هم يرون أن الباقى من هذه اللغات الست أو تلحروف الستة هو حرف قريش دون غيرهم.
واعترض على هذا الرأى بأنه يترتب عليه أن يكون عثمان رضى الله عنه قد نسخ الأحرف الستة التى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى مما يقرأ بها0 وأجيب عن ذلك بأن ذلك لا يعد نسخا ولا رفعا ولا إهمالا من الأمة للأحرف الستة الأخرى لأن الأمة قد أمرت بقراءة القرآن وخيرت فى قراءته بأى من الأحرف السبعة ولم يجب عليها قراءته بجميعها، فاختيار حرف منها لا يعد جرما ولا نسخا للأحرف الباقية خاصة أن الحاجة قد دعت إلى ذلك بعد وقوع الاختلاف والتنازع بين الصحابة فى فتح أرمينية وأذربيجان، الأمر الذى اضطر عثمان معه إلى جمع المصحف وكتابته بحرف قريش لأن لغة قريش كانت تعتبر مركزا لسائر اللغات العربية، بسبب موقع البيت الحرام ببلدهم مكة المكرمة وانتقال سائر القبائل إليهم لحج البيت.
وبعد هذا العرض يتضح لنا أنه ما من رأى إلا واعترض عليه بما قد عرفت غير أن الرأيين الأخيرين هما أولى الآراء والأخير منهما أولى الرأيين من وجهة نظرى والله أعلم. ويترتب على هذا الرأى الذى رجحته أن يكون الثابت الآن فى المصحف هو حرف قريش دون غيره، وعلى الرأى الذى سبقه يكون الثابت فى المصحف العثمانى هو ما احتمله هذا الرسم من الأحرف السبعة.
من فوائد نزول القرآن على سبعة أحرف:
1 - التهوين والتيسير على الأمة والتوسعة عليها فى قراءتها للقرآن الكريم0كما تدل على ذلك الأحاديث النبوية الواردة فى هذا المقام ومنها حديث مسلم الذى رواه بسنده المتصل عن أبي بن كعب " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا "
2 - إثراء التفسير والأحكام الشرعية بتعدد الأحرف، لأن تعدد الأحرف يترتب عليه تعدد المعانى وتزاحمها على سبيل الإثراء والتأييد، لا على سبيل التعارض أو التناقض.
3 - إظهار كمال الإعجاز بغاية الإيجاز لأن كل حرف مع الآخر بمنزلة الآية مع الآية فى دلالتها وفيما اشتملت عليه.
¥