هذه الآية اختلف فى تفسيرها على أقوال كثيرة، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله بعضاً منها على سبيل التمثيل فقال: معلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للحرمات. والمقتصد يتناول فاعل الواجبات و تارك المحرمات. والسابق يدخل فيه من سبق، فتقرب بالحسنات مع الواجبات، فالمقتصدون هم أصحاب اليمين، والسابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلاً منهم - أى المفسرين - يذكر هذا فى نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل:
السابق الذى يصلى فى أول الوقت، والمقتصد الذى يصلى فى أثنائه، والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر إلى الاصفرار.
أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكروا فى أخر سورة البقرة، فقد ذُكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع… .. وأمثال هذه الأقاويل.
ثم قال: فكل قول فيه ذكر نوع داخل فى الآية، وإنما ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال، قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق، وذلك مثل سائل أعجمى سأل عن مسمى لفظ " الخبز " فأرى رغيفاً وقيل له: هذا. فالإشارة إلى نوع هذا، لا إلى هذا الرغيف وحده ا. هـ[6].
ثم تناول ابن تيمية وجوهاً أخرى للخلاف [7]، داخلة فى اطار خلاف التنوع أحجمت عنها لعدم الإطناب، منعاً للسآمة والملل.
وأما التفسير بالرأى،فقد أرجع ابن تيمية الخلاف فيه لسببين:
أحدهما - قوم اعتقدوا معانى ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها [8].
والثانى - قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه، والمخاطب به.
فالأولون: راعوا المعنى الذى رأوه من نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
والآخرون: راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربى من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به، وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون فى احتمال اللفظ لذلك المعنى فى اللغة كما يغلط فى ذلك الذين من قبلهم.
كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون فى صحة المعنى الذى فسروا القرآن، كما يغلط فى ذلك الآخرون. وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ا. هـ[9] هذه بعض أسباب الخلاف بين المفسرين فى نظر ابن تيمية.
أما العلامة ابن جزى فقد ذكر أسباب الخلاف بين المفسرين حاصراً إياها فى اثنى عشر سبباً هى:
1 - اختلاف القراءات.
2 - اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات.
3 - اختلاف اللغويين فى معنى الكلمة.
4 - إشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.
5 - احتمال العموم والخصوص.
6 - احتمال الإطلاق والتقييد.
7 - احتمال الحقيقة أو المجاز.
8 - احتمال الإضمار أو الاستقلال.
9 - احتمال أن تكون الكلمة زائدة.
10 - احتمال حمل الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير.
11 - احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً.
12 - اختلاف الرواية فى التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم -وعن السلف-رضى الله عنهم. [10].
تفصيل الكلام عن هذه الأسباب
أما بالنسبة للسبب الأول: وهو اختلاف القراءات
فكما تناوله ابن جزى- كما علمت - فى مقدمة تفسيره التسهيل لعلوم التنزيل [11] جاعلا إياه أحد أسباب الخلف بين المفسرين تناوله أيضا الشاطبى فى الموافقات. [12]
ويتصور ذلك فى الآية التى ترد بقراءتين أو أكثر فإن ذلك يترتب عليه أن تتعدد الآراء فى تفسيرها تبعاً لتعدد هذه القراءات؛ لأن هذه القراءات كثيراً ما تضيف معانى جديدة مما ليس موجوداً فى غيرها من القراءات الواردة فى نفس الآية، فيترتب على ذلك أن يتناول بعض المفسرين الآية من خلال قراءة معينة، بينما يتناولها غيرهم من خلال قراءة أخرى فيحدث الخلاف.
وننبه هنا إلى أن هذه القراءات التى تحدث تعدداً واختلافاً فى الأوجه التفسيرية، قد لا تكون فى درجة واحدة فى بعض الأحيان، كأن يكون بعضها متواتراً وبعضها شاذاً، كما أنها تكون فى كثير من الأحيان فى درجة واحدة من التواتر، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص وقواعدها التى تضبط تعامل المفسرين معها.
وبناءً عليه فإن صور الخلاف بين القراءات هى كالآتى:
1 - الخلاف بين قراءة متواترة وأخرى شاذة.
2 - الخلاف بين قراءتين متواترتين.
¥