هاتان صورتان تتجهان إلى القراءة ذاتها، وأحياناً تكون صورة الخلاف بين المفسرين بسبب القراءات السبب فيها ليس راجعاً إلى القراءات ذاتها، وإنما إلى اعتبارات العلماء، وذلك مثل اختلافهم حول حكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة.
ومثل اختلافهم حول اشتراط التواتر فى إثبات القرانية فى الترتيب والوضع أو المحل، أو عدم اشتراطه. فهاتان صورتان أخريان، يقع فيهما الخلاف بين المفسرين.
ما الذى يؤثر على التفسير من القراءات؟
ينبغى أن يعلم أنه ليس كل اختلاف بين هذه القراءات يسبب الاختلاف فى أوجه التفسير، بل إن القراءات من هذه الناحية تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: قراءات لا يؤثر اختلافها فى التفسير بحال.
وذلك كاختلاف القراء فى وجوه النطق بالحروف والحركات، كمقادير المد والإمالات، والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس، والغنة والإخفاء.
ومزية القراءات من هذه الجهة راجعة إلى أنها حفظت على أبناء اللغة العربية ما لم يحفظه غيرها، وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف فى مخرجها وصفاتها، وبيان اختلاف العرب فى لهجات النطق، وهذا غرض مهم جداً لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره فى اختلاف معانى الآى.
ثانيهما: قراءات يؤثر اختلافها فى التفسير:
وذلك مثل اختلاف القراء فى حروف الكلمات مثل " مالك يوم الدين " و " ملك يوم الدين" وكذلك اختلاف الحركات، الذى يختلف معه معنى الفعل كقوله سبحانه: " ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون " حيث قرأ نافع "يصُدون" بضم الصاد، وقرأ حمزة "يصِدون" بكسر الصاد.
والأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم فى أنفسهم، وكلا المعنيين حاصل منهم. [13] مثل ذلك مؤثر فى التفسير، لأن ثبوت أحد اللفظين فى قراءة قد يبين المراد عن نظيره فى القراءة الأخرى أو يثير معنى غيره، ولأن اختلاف القراءات فى ألفاظ القرآن يكثر المعانى في الآية الواحدة.
وقال المحقق ابن الجزرى في ذلك: قد تدبرنا اختلاف القراءات فوجدناه لا يخلو من ثلاثة أحوال:
أحدهما: اختلاف اللفظ لا المعنى كالاختلاف فى ألفاظ (الصراط [14] , يؤوده [15] , القدس [16]) ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط.
الثانى:اختلافهما جميعاً مع جواز اجتماعهما فى شئ واحد مثل (مالك , ملك) [17] قراءتان المراد بهما الله تعالى فهو مالك يوم الدين وملكه , ومنه قراءة (ننشزها , وننشرها) [18] لأن المراد فى القراءتين العظام فالله أنشرها بمعنى أحياها , وأنشزها أى رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت , فضمن الله المعنيين فى القراءتين.
الثالث: اختلافهما جميعاً مع امتناع جواز اجتماعهما فى شئ واحد , لكن يتفقان من وجه آخر لا يقتضى التضاد.
ومثاله قوله تعالى: (وظنوا أنهم قد كذبوا) [19] حيث قرئ بالتشديد والتخفيف فى لفظ (كذبوا) هكذا " كُذِّبوا ", و" كذِبوا" فاما وجه التشديد فالمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذّبوهم , وأما وجه التخفيف فالمعنى: وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذَبوهم - أى كذبوا عليهم - فيما أخبروهم به , فالظن في الاولى يقين والضمائر الثلاثة للرسل , والظن فى القراءة الثانية شك , والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم. ومنه أيضاً قوله تعالى: (وإن كان مكرهم لَتَزول منه الجبال) [20] بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى فى كلمة "لتزول" وبكسر الأولى وفتح الثانية فيها أيضاً , فأما وجه القراءة الأولى فعلى كون " إنْ" مخففة من الثقيلة أى وإن مكرهم كامل الشدة تقتلع بسببه الجبال الراسيات من مواضعها , وفى القراءة الثانية " إن " نافية أى: ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام.
ففى الأولى تكون الجبال حقيقة , وفى الثانية تكون مجازاً. [21].
وبعد ففى هذين النقلين عن صاحب تفسير التحرير والتنوير عن الشيخ المحقق ابن الجزرى ما يوضح بجلاء أن القراءات منها ما يكون له تأثير على التفسير , ومنها ما يتعلق باللفظ فقط وهيئة أدائه وهو لا يؤثر على التفسير , وبحثنا الذى نحن بصدده يتعلق بالقسم الأول.
وأما السبب الثانى: وهو اختلاف أوجه الإعراب وإن اتفقت القراءات، فمثاله اختلافهم حول الضمير "هم" فى قوله سبحانه: (وإذا كالوهم أو وزنوهم) [22]
حيث اختلفوا فى الضمير "هم" فى الموضعين على وجهين:
¥