"واعلم أن ليس النظم إلاّ أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله. "فلست بواجدٍ شيئاً يرجع صوابه إن كان صواباً, وخطؤه إن كان خطأ, إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم, إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه, ووضع في حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة, فأزيل عن موضعه, واستعمل في غير ما ينبغي له. فلا ترى كلاماً قد وصف بصحة نظم أو فساده, أو وصف بمزية وفضل فيه, إلاّ وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه " ()."إن عبدالقاهر الجرجاني يتحدث عن سلطة ليست وجوداً حسياً في العالم لكن وجودها لا يقل عن وجود قوانين الحركة في ذلك العالم إنها سلطة النحو وهكذا يربط عبد القاهر بين النحو والنظم باعتبار الأول السلطة التي تحدد صحة الثاني أو عدم صحته" () , أو بالأحرى أن نقول: إن الرتبة هي التي تحدد صحة النظم, أو ضعفه, أو فساده, لأن النظم يقوم على الرتبة, ولأن إصابة الموضع, أو عدم إصابته تحدده الرتبة أو قوة العلاقة المعنوية بين الألفاظ, التي تجعل الألفاظ تنسابُ بسلاسة.
ثانيا: أصل ترتيب الجملة العربية
حدد النحاة أصل ترتيب الجملة العربية بواسطة أصل الاستصحاب, وهو أصل من أصول النحو العربي, يقوم على ملاحظة الشواهد اللغوية وصولاً إلى التجريد, " وقد كان الاهتمام بالبنية الأساسية منطلقاً لتناول الظاهرة اللغوية فهي نموذج أو معيار يحاول الكلام الحي تنفيذه, والنموذج التجريدي أساس للنموذج الحي, ولذلك حاسبوا الكلام المنطوق بمقياس النموذج التجريدي " (). " لأنه من غير المعقول أن تتعدد النماذج بتعدد الجمل المتكررة المتعددة, فهذا ضرب من الفوضى التي لا ضابط لها, وإنما تُحصَّل اللغات وتدرك عن طريق النماذج الأساسية التي تحكم أَبنيتها الكثيرة المتنوعة المتكررة" (). " فإذا أمكن تحديد النظام اللغوي معياراً للغة التي هي مجال الدراسة فإن ظواهر الاستعمال اللغوي, أي ظواهر الأداء أو الكلام تقابل في هذه الحالة بمستويات النظام اللغوي المخزون في الذهن" ().
وعلى هذا فاللغة قانون تجريدي واستعمال, وقد يكون الاستعمال مطابقاً للنظام أو لا يكون, وهو ما يسمى العدول عن الأصل, وهذا شبيه بما يسمى باللغة والكلام, فاللغة قانون مخزون في ذهن الجماعة, والكلام هو النشاط اللغوي المحسوس إِما أن يطابق الأصل وإما أن يخرج عنه.
أولا: أصل ترتيب الجملة الفعلية: -
استقر تقسيم الجملة العربية عند جمهور النحاة إلى قسمين: الجملة الفعلية والجملة الاسمية, أما أصل ترتيب الجملة الفعلية فهو كما قال السيرافي: قال سيبويه: فإذا بنيت الاسم على الفعل قلت ضربتُ زيداً وهو الحد, كما كان الحد ضرب زيدٌ عمراً, يعني تأخير المفعول هو الأصل والوجه, ويعني أن الحد تأخير زيد مع الفاعل المكني وهو التاء, كما كان الحد تأخير المفعول مع الفاعل الظاهر" () فأصل ترتيب الجملة الفعلية هو أن يتقدم الفعل المبني عليه يليه الفاعل ثم المفعول, بغض النظر عما إذا كان الفاعل ظاهراً أو مضمراً.
وقد قال ابن مالك:
"والأصلُ في الفاعلِ أن يتَّصلا والأصلُ في المفعول أن يَنْفَصِلا
وقد يجاءُ بخلافِ الأصل وقد يجيءُ المفعولُ قبلَ الفِعْلِ" ()
كما أن الرضي يرتب الضمائر المتصلة بالفعل من المتكلم إلى المخاطب إلى الغائب فيقول: وضع المتكلم أولاً ثم المخاطب ثم الغائب" () أما ابن عقيل فيقول: ضمير المتكلم أخص من ضمير المخاطب وضمير المخاطب أخص من ضمير الغائب" ().
فهذه الضمائر تترتب برتبة المعنى, والأقرب يتقدم على الأبعد, " فإذا جئت بالمتصل بعد الفعل فحق هذا الباب أن تبدأ بالأقرب قبل الأبعد وأعني بالأقرب المتكلم قبل المخاطب والمخاطب قبل الغائب" () كما قالت امرأةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني نسجتُ هذه بيدي لأكسُوَكهَا (). فالفعل أقرب إلى فاعله من المفعول به وأقرب من النفس منه إلى الغير, والفعل أخص بفاعله من المفعول, وهكذا تترتب الكلمات من الأخص إلى غير الأخص وذلك لأن الفعل صادر من الفاعل, فهناك علاقة معنوية وثيقة بين الفعل والفاعل وهي أشد من العلاقة بين الفعل والمفعول.
¥