[من الإعجاز النفسي في القرآن الكريم]
ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[22 - 05 - 2005, 01:06 ص]ـ
[من الإعجاز النفسي في القرآن الكريم]
الدكتور عودة الله منيع القيسي ـ لغويّ وناقد أدبي
معروف أن أنواع الإعجاز في القرآن الكريم لا تنتهي، أماَ قال رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – عن القرآن: " .. لا يخلَقُ على الردّ، ولا تنقضي عجائبه "؟ (1) (ولا يخلق – بفتح اللام-: لا يبلى، والردّ: التكرار)، فمن أنواع الإعجاز فيه: الإعجاز اللغوي، والإعجاز العلمي (الفلكي والطبي وطبقات الأرض) والإعجاز الغيبي (العقيدي والتاريخي) والإعجاز التشريعي، والإعجاز التربوي والإعجاز الحكمي، والإعجاز في النظر الاجتماعي، والإعجاز في النظر النفسي، إلى غيرها من أنواع الإعجاز.
وفي هذه المرة سنقف على تصنيف القرآن إلى حالات النفس الثلاث، وهي حالة أمْرِها بالسوء عند الأشرار، أو عند غير الأشرار، ولكن قليلاً. وحالة اللوم، وغالباً ما تكون عند الناس الهُوج أصحاب القلوب الطيبة الذين يكثرون من الأخطاء، وإن كانت صغيرة، وهؤلاء يلومون أنفسهم عَقِبَ كل خطأ. وحالة الاطمئنان، وهي حالة نفس أولئك الذي يكثرون من الأعمال الصالحة، ولا يرتكبون الكبائر، ويتوكلون على الله تعالى، ويقبلون بحكمه.
وهؤلاء الفريق الأخير هم المؤمنون الذين قال عنهم رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له" (2) ولذلك فهو مطمئن النفس، راضٍ بقضاء الله تعالى وقدره.
* * *
وبعد الوقوف على الآيات التي تقرر حالات النفس الثلاث – نأتي بثلاث آيات أخرى تدل على التفوق في التعبير عن حركات النفس وخلجاتها، حَسَبَ المواقف والظروف، نناقشها من حيث دلالتها النفسية.
وهذه الآيات الثلاث هي:
الآية الأولى: " وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء " (يوسف – 53)
والثانية: " لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة" (القيامة 1، 2)
والثالثة هي: " يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية " (الفجر – 27، 28).
هذه ثلاث حالات للنفس، في كل آية حالة، فالنفس أمّارة بالسوء أحياناً وعند بعض الناس، وهي لوّامة عند الناس المتطهرين، وهي نفس مطمئنة عند المؤمنين، ولا شك أن الأشرار تأمرهم بالشر بنسبة – 90% تقريباً، وتأمر بالشر قليلاً بنسبة – 30% تقريباً عند عامة الناس، ولا تأمر بالشر أكثر من – 10% تقريباً عند الناس المتطهرين المؤمنين.
لأن الأصل في طبيعة الإنسان – كما قال الفيلسوف اليوناني " أبيقور" في اليونان القديمة - أنه يبحث عن (اللذة) وإن كانت محرمة، وإن كانت شراًّ للآخرين - ويفرّ من "الألم" وإن كان واجباً، وفيه منفعة للآخرين، ولكن الناس يتفاوتون في إقبالهم على اللذة المحرمة، ويتفاوتون في فرارهم من الألم وإن كان واجباً، حسب النسبة الآنفة الذكر.
ولهذا .. نزلت الأديان لتبيّن للناس أنواع اللذة المباحة ليكونوا أحراراً في التنعم بها، ولتبيّن لهم اللذة المحرمة ليجتنبوها. وتبين لهم ما هو مؤلم ولكنه واجب ليحملوا أنفسهم على الأخذ به، لأن الأديان من أهدافها الرئيسية بناء إرادة الإنسان، والصبر على الفعل الذي يسبب الألم هو دليل على أن الشخص ذو إرادة قوية. ثم .. تترك لهم حرية اجتناب المؤلم الذي واجبَ فيه، ولا خير فيه.
ولهذا أيضاً اضطرت المجتمعات التي تبقي الأديان مقصورة على مجال الروح، وليس لها علاقة بالحياة اليومية – اضطرت إلى أن تنظم حياتها على أساس " عقد اجتماعي" يترجم إلى سياسة وإدارة واقتصاد .. حتى لا تكون الحياة كالغابة؛ تأكل الحيوانات القوية فيها الحيوانات الضعيفة، وحتى يكون أمن واستقرار، وحياة مقبولة لعيش الإنسان.
هذا كله يعني أن القرآن عبّر عن حالات النفس المختلفة التي لا مزيد عليها. فإذا عرفنا أنه نزل على أمة أُمّية أدركنا أن له سبقاً في بيئته في هذا المجال.
¥